على وقع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شهدت المفاوضات النووية بين إيران والمجموعة الدولية (4+1 وواشنطن) تقدّماً لافتاً في إزالة العِقَد العالقة أمام حلّ أزمة إعادة إحياء الاتفاق النووي بصيغته الجديدة، التي يمكن القول إنّها في الأمتار الأخيرة حسب ما تؤكّده مواقف الدول المعنيّة بهذه المفاوضات.
بالتزامن مع زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي لإيران لتلقّي أجوبة عن أسئلة الوكالة عن عدد من المنشآت النووية الإيرانية التي عُثر فيها على آثار يورانيوم مخصّب بدرجات عالية، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنّ بلاده ومعها الصين تريدان ضمانات أميركية مكتوبة بأن لا تسري العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة الأزمة الأوكرانية على تجارتها وتعاونها الاقتصادي مع إيران بعد رفع العقوبات عنها.
عودة إيران إلى الأسواق العالمية، واستعادة حصّتها في أوبك على الأقلّ، ستلعبان دوراً مؤثّراً في إمكانية ضبط هذا السوق، وتعيقان حصول ارتفاعات حادّة في الأسعار
يذهب التصعيد الروسي في اللحظات الأخيرة في اتجاهين يرتبطان بالوضع الإيراني ما بعد الاتفاق، الأول قد يكون إيجابياً بالنسبة إلى كلا الطرفين الإيراني والروسي، إذ تحاول موسكو تفعيل العمل بالاتفاقية الاستراتيجية القائمة التي تمّ تمديدها في الأشهر الأخيرة، وتحويل إيران إلى معبر مالي وتجاري للالتفاف على العقوبات الدولية التي فُرِضت عليها. وعليه فإنّ المطلب أو الشرط الروسي يصبّ في محاولة ضمان عدم لجوء واشنطن والدول الأوروبية إلى سدّ هذا المنفذ في أجواء الانفتاح الدولي المرتقب على إيران.
أمّا الاتجاه الثاني، الذي يبدو أنّه يخدم المصالح الروسيّة أكثر، فهو العمل على عرقلة توقيع الاتفاق، وهو ما ينشِّط الذاكرة ويساعدها على استعادة ما سبق أن كشفه وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، في التسريب الصوتي الشهير، عن دور روسيّ سلبيّ عام 2015 لعرقلة التوقيع على الاتفاق حينها، وذلك لأنّ موسكو تتعامل مع عودة إيران إلى سوق النفط العالمية في هذه المرحلة الدقيقة من تداعيات الأزمة الأوكرانية، باعتبارها تهديداً استراتيجياً لِما تبقّى من مصالحها وما تملك من أوراق تراهن على استخدامها لابتزاز الدول الأوروبية، وتحديداً ورقة قطاع الطاقة بشقّيْه النفط والغاز.
فعودة إيران إلى الأسواق العالمية، واستعادة حصّتها في أوبك على الأقلّ، ستلعبان دوراً مؤثّراً في إمكانية ضبط هذا السوق، وتعيقان حصول ارتفاعات حادّة في الأسعار. وفي حال استطاعت طهران ضخّ كميّات من النفط قادرة نسبيّاً على سدّ النقص في الإمدادات الروسيّة البالغة 11 مليون برميل يومياً، سيتعقّد الموقف الروسي الذي يراهن على استغلال هذه الورقة التي بدأت تؤثّر في الاقتصادات الدولية.
أمّا عن ورقة الغاز، الذي تحاول موسكو إبعاده عن دائرة العقوبات، مستفيدةً من الصعوبة التي تواجهها الدول الأوروبية في الحصول على مصادر بديلة له، فإنّ عودة طهران إلى السوق الدولية ودخول سوق تصدير الغاز إلى أوروبا يشكّلان ضربة قاسية للاستراتيجيّات الروسية، خاصة أنّ طهران قادرة على ملء جزء من الفراغ الذي قد يحصل في حال تمّت مقاطعة الغاز الروسي أو فرض عقوبات عليه.
نصف الموقف الذي اتّخذته إيران في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، بالامتناع عن التصويت على قرار إدانة روسيا بسبب اجتياحها لأوكرانيا، يكشف دقّة الموقف الإيراني من الخطوة الروسية، وفي الوقت نفسه من السياسة الأميركية. وقد عبّر المرشد الأعلى بحذر عن هذا الموقف عندما عبّر عن رفض إيران للحرب، لكنّه اتّهم واشنطن في الوقت نفسه بالمسؤوليّة عن دفع الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد نتيجة تهديدها للأمن القومي لروسيا.
يأتي نصف الموقف هذا بسبب محاولة طهران الإمساك بالعصا من المنتصف، فهي لا تريد التنصّل من علاقاتها التاريخية مع روسيا والصين في مرحلة العقوبات، على الرغم من الضربات التي تلقّتها من هذين “الحليفين أو الصديقين” في مجلس الأمن الدولي خلال العقدين الأخيرين، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تعزيز الثقة بينها وبين المجتمع الدولي الذي ينتظر العودة إلى الأسواق الإيرانية.
ولعلّ البعد الأهمّ في تعقيد نصف الموقف الإيراني أنّ النظام الإيراني ينظر إلى مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، وانعكاساتها على مناطق نفوذه في منطقة غرب آسيا، وتحديداً الشرق الأوسط، خاصة أنّ هذا النفوذ يتداخل مع النفوذ الروسي ومصالح موسكو في أكثر من ساحة، وتحديداً الساحة السورية.
إنّ خروج موسكو من الأزمة الأوكرانية بأقلّ قدر من الخسائر، وتحقيق جزء من مصالحها الاستراتيجية، سيسمحان لها بأن تنتقل إلى ترتيب أوراقها في الساحات الأخرى، خاصة الساحة السورية المرشّحة لأن تشهد تصعيداً في المرحلة القادمة في حال لجأت موسكو إلى استراتيجية الهيمنة الكاملة على هذه الساحة وإخراج اللاعبين والمؤثّرين الآخرين منها. ولعلّ المؤشّر إلى هذا السيناريو هي المناورات البحرية التي أجرتها القوات البحرية الروسية مقابل الشواطئ السورية في البحر الأبيض المتوسط بحضور وزير الدفاع سيرغي شويغو وبالتزامن مع بدء العملية العسكرية في أوكرانيا.
إقرأ أيضاً: إيران ودرس روسيا
أن تصف طهران المطلب الروسي، ومعه المطلب الصيني، بالحصول على ضمانات أميركية مكتوبة لمستقبل العلاقات التجارية مع إيران، بالموقف “غير البنّاء”، خاصة أنّه يأتي عشيّة التوقيع المحتمل على الاتفاق النووي الجديد ودخول إيران في مرحلة ما بعد العقوبات، سيعيد الجدل الداخلي إلى بداياته، ولا سيّما بين القوى التي أعلنت مبكراً تشكُّكها في الموقف الروسي ودعت إلى عدم الثقة به ولا التسليم له ولا إعطائه دوراً محورياً في التفاوض نيابة عن إيران. فهذا الموقف أو المطلب بمنزلة “قنبلة” ألقاها الروسي لتفجير الاتفاق الذي بات قاب يومين أو أدنى، لأنّه يُعيد تعقيد مصير الاتفاق ويُطيح بالجهود التي بُذلت على مدى أشهر من أجل الوصول إلى هذه النقطة. فهل تسمح إيران والدول الغربية بذلك؟ سؤال لا شكّ سيشغل المسؤولين في الدوائر المعنيّة، سواء في طهران أو العواصم المهتمّة بالملفّ الإيراني؟