“ببساطة لا أهتمّ”. بهذه الحدّة أجاب وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على سؤال وجّهه له الصحافي جيفري غولدبرغ رئيس تحرير مجلّة “الأتلانتك” الأميركية، ومفاده “هل تريد أن يعرف عنك جو بايدن شيئاً قد لا يعرفه عنك؟”.
أضاف الأمير حول العلاقات الأميركية السعودية:
“هذا الأمر يعود إليه، ومتروك له للتفكير في مصالح أميركا (…) أين تكمن الإمكانيات العالمية؟ إنّها في المملكة العربية السعودية، وإذا أردت تفويتها، فهناك أشخاص آخرون في الشرق سيكونون سعداء للغاية”، في إشارة واضحة إلى تنامي العلاقات السعودية الصينية.
إذا كان من حرب باردة فعليّة تدور فهي بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط، الذين يزداد انحدار منسوب ثقتهم بالولايات المتحدة
في الرياض وأبوظبي وتل أبيب، لا يبدو الحلفاء التقليديون لواشنطن تقليديّين أبداً في تعاملهم مع القضايا التي تحتلّ أولويّة لدى واشطن. جاءت أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا لتلقي المزيد من الضوء على التغييرات العميقة التي تحصل في المنطقة. اختارت أبوظبي أن تمتنع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي الذي تتولّى رئاسته المؤقّتة، بدل التصويت مع قرار يدين موسكو. أمّا إسرائيل، وعلى الرغم من الرأي العام فيها المؤيِّد لأوكرانيا والذي عبّر عنه عدد من الشخصيات السياسية والثقافية الرفيعة، فقد اختارت أن تمسك العصا من الوسط، ورفضت تزويد كييف بسلاح القبّة الحديديّة. السعودية على طريقتها بعثت بإشارات مبكرة. بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن، بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، يوم العاشر من شباط، تعمّد البيان السعودي، الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس”، ذِكْر أنّ الملك سلمان أكّد “أهميّة الحفاظ على توازن أسواق البترول واستقرارها”، ونوّه بدور اتّفاق “أوبك +” مع روسيا الذي وصفه بـ”التاريخي”، وجدّد ضرورة المحافظة عليه، وهو ما يعني أنّ الرياض ليست في وارد زيادة الإنتاج لخفض الأسعار.
إذا كان من حرب باردة فعليّة تدور فهي بين واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط، الذين يزداد انحدار منسوب ثقتهم بالولايات المتحدة. عام 1994، وبموجب ما سُمّي حينها “تفاهم بودابست”، تخلّت أوكرانيا عن ترسانتها النووية المكوّنة من 1800 رأس نووي مقابل ضمانات أمنيّة توافق عليها كلّ من أميركا وبريطانيا وروسيا.
ما حلّ بأوكرانيا أكّد لهذا الثلاثي الشرق أوسطي أنّ “المتغطّي بالأمريكان عريان”، بحسب عبارة منسوبة إلى الرئيس المصري الراحل حسني مبارك.
كأس أوكرانيا شربتها دول المنطقة قبلاً. لم تحرّك إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ساكناً بعد الاعتداء الإيراني على منشآت أرامكو في أبقيق. اعتبرت واشنطن حينها أنّ الاعتداء يستهدف السعودية، لا أميركا ولا مصالحها، في إطاحة عجيبة بكلّ مرتكزات الحماية الغربية للمملكة، منذ “اتفاق كوينسي” بين الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1945.
ولم تقدّم واشنطن لأبوظبي أيّاً ممّا طلبته الإمارات ردّاً على اعتداءات الحوثي عليها، بل اكتفت ببعض الإجراءات شبه الرمزية. فالسفينة “كول” كانت في المنطقة أصلاً، وطائرات “إف 22” كانت مُجَدْوَلة لأن تحطّ في أيّ من الدول الحليفة لأميركا كالأردن أو إسرائيل، الأمر الذي يجعل تحويل مسارها نحو قاعدة الظفرة في أبوظبي نوعاً من المجاملة.
مطالب أبوظبي أربعة. سمعها الأميركيون والبريطانيون والألمان والفرنسيون.
1- إدراج الحوثي على لوائح الإرهاب.
2- إعلام الإمارات بما هو متوافر في المخازن من صواريخ منظومتيْ باتريوت وثاد.
3- تعاون استخباراتي حول اليمن.
4- إنذار مبكر بشأن أيّ هجمات مستقبلية من قبل الحوثي أو أيّ من الميليشيات الأخرى في المنطقة.
كلّ ما صدر عن واشنطن من تعاون لا يغطّي ولو من بعيد أيّاً من هذه المطالب الأربعة، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على الثقة بالتزام واشنطن بأمن حلفائها.
وفي إسرائيل يشعر صنّاع القرار أنّ أميركا تعاملهم كالأطفال بخصوص الملفّ النووي الإيراني، وهي تملي عليهم ما تراه أنّه مصلحة لإسرائيل خلافاً لِما يرونه هم. لا يختلف الموقف في أبوظبي أو الرياض عن الموقف في تل أبيب من الاتفاق النووي المزمع عقده، وخلاصة هذا الموقف أنّ إيران بأدوارها المزعزعة في المنطقة ورعايتها للميليشيات المتفلّتة من كلّ ضابط سيادي في الدول التي تتحرّك فيها، تساوي الخطر النووي، هذا إذا لم تتفوّق عليه.
إلى ذلك سيزداد الموقف من النووي الإيراني حدّةً في ضوء اللعب الروسي على حافّة الحرب النووية منذ غزو أوكرانيا، تارةً بالاقتراب من مفاعل تشيرنوبيل، وتارةً أخرى بقصف مبانٍ في محطة الطاقة النووية زابوريجيا في أوكرانيا، وهي الكبرى في أوروبا. وبين الاثنين إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن وضع “قوّة الردع” في الجيش الروسي، وذلك في إشارة إلى الوحدات التي تضمّ أسلحة نووية، في حالة التأهّب الخاصّة.
منذ إدارة أوباما، تشهد العلاقات الأميركية الشرق أوسطيّة نزفاً حادّاً في الثقة. ويرى الخبراء أنّ هذا النزف يغطّي إدارات أوباما وترامب وبايدن، وهو مرشّح للاستمرار ما بعد بايدن، لأسباب تتّصل بقراءة واشنطن لموقع وأهميّة الشرق الأوسط بالنسبة إلى المصالح الأميركية.
ترتكب أميركا خطأً كبيراً بحصر المصالح مع هذه الدول المهمّة في المنطقة بالنفط وأمن إسرائيل. السرديّة الساذجة تعتبر أنّ عصر النفط انتهى، وأنّ إسرائيل اليوم ليست إسرائيل العام 1967 أو 1973، وأنّ أمنها مصون ووجودها غير مهدَّد. وثمّة مَن يُلفت إلى اتّفاقات السلام الموقّعة مع إسرائيل أو الاتّفاقات المحتملة، كقول وليّ العهد السعودي إنّ إسرائيل حليف محتمل، كمؤشّر إلى أنّ المنطقة لا تحتاج إلى حماية أميركية.
تبسيط الأمور على هذا النحو، يدفع الأمور إلى الكثير من التوتّر والتصعيد لأنّه يثير قلق الحلفاء وشهيّة الأعداء ويرسل رسائل خاطئة للدول التي تعتبر أنّ رصيدها يكبر في ظلّ عدم الاستقرار والعدوان على النماذج التي تشبه الإمارات والسعودية وإسرائيل.
أزمة أوكرانيا وضعت الأميركيين أمام تحدّي تطوير نظرتهم إلى المنطقة، وهي تكشف حجم الاختراقين الصيني والروسي لمواقف حلفائها التقليديين.
في العقود الأخيرة استسهل الأميركيون ممارسة التفوّق الأخلاقي على حلفائهم، وبالغوا في تغليب تصدير القيم الأميركية على أولويّة الاستقرار. لكنّهم فعلوا ذلك بأعلى درجات ازدواج المعايير. ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا ننتبه إلى حجم الفوائد التي عاد بها “المال الروسي الحرام” على عقارات لندن وأنديتها الرياضية وأسواق الأسهم في نيويورك ومصانع اليخوت في إيطاليا ومتاجر الرفاهية الفاخرة في باريس.. وكيف لأجل ذلك تغاضوا عن الكثير من سياسات بوتين وممارساته حتى حين لوّث مدناً أوروبية بموادّ مشعّة وهو يقدم على اغتيال خصومه. أمّا حين ثار الإيرانيون عام 2009 أشاح أوباما بوجهه عنهم ونحر التزام أميركا بتصدير الديموقراطية لأنّ أولويّته كانت حماية المفاوضات النووية مع إيران يومها. أمّا حين انتفض المصريون فسارع خلال أيام قليلة للطلب علناً من الرئيس مبارك التنحّي “الآن”!.
إقرأ أيضاً: درس أوكرانيا: إقتلْه لكن أرجوك لا تجرحْني!
كلّ هذا معلوم عند صنّاع القرار في أبوظبي والسعودية وتل أبيب. وفي كلّ ذلك دروس مستفادة.
المنطقة تقول بصوت مرتفع إنّ واشنطن ليست في أيّ موقع أخلاقي لتقرّر عن حلفائها، وليست في موقع اقتصادي يسمح لها باستتباع الاقتصادات الحليفة خارج قواعد العلاقات التبادليّة العادلة. وتقول أيضاً إنّ الصين وروسيا في لحظة الانسحاب الأميركي المتعجّل من الشرق الأوسط تتحوّلان إلى دول شرق أوسطية بالعسكر والأمن والتكنولوجيا والبنية التحتية.
الصوت الآتي من السعودية واضح. المصالح إمّا أن تكون متبادلة وإمّا لا تكون.