درس أوكرانيا: إقتلْه لكن أرجوك لا تجرحْني!

مدة القراءة 6 د

بدأت علامات قواعد النظام الدولي الجديد تظهر تدريجياً في أوكرانيا.

تتمّ صياغة هذا النظام (New world order) عبر أدوات:

1- العمل العسكري.

2- العقوبات الاقتصادية.

3- الضغط الدبلوماسي.

4- العمل الإعلامي.

5- الحرب السيبرانية.

يقوم النظام الدولي الجديد على إضعاف قدرات المنافس، لكنه يتجنّب إلغاءه هذا ما يمكن رصده عبر سلسلة من المؤشرات:

في هذا العالم المضطرب هناك 132 دولة، على الأقلّ، تتعامل مع روسيا في سلعة استراتيجية واحدة على الأقلّ

– حرص الأميركيين والغرب على السماح لبعض البنوك الروسية بأن تكون خارج المقاطعة.

– رفض دول الناتو إعلان أوكرانيا منطقة حظر طيران.

– إعلان الكرملين الحرص على عدم قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن.

– استمرار الاتصالات الهاتفية بين بوتين وماكرون.

– استمرار جولات الحوار بين موسكو وكييف برعاية بيلاروسيا.

بناء على ما تقدّم، الصراع والتنافس الحاليان اللذان يهدفان إلى صياغة قواعد النظام العالمي الجديد وتحديد حصص كلّ طرف في النظام هما “على الرغم من كلّ شيء” محكومان غير منغلقين، حتى التجاوزات ومداعبة الخطوط الحمر فيهما “محسوبة أحياناً بعقل وأحياناً بتهوّر”.

المهمّ أنّ الجميع يلعب اللعبة ويحرص على عدم انفلات الأمور فيها.

نشهد صيغة جديدة من أهمّ معالمها: “أرجوك حينما تقتل أوكرانيّاً كن حريصاً جدّاً في أسلوب قتله”!
[VIDEO]

ترجمة ما سبق تجدها في تصريحات ماكرون (الناطق باسم الغرب في هذا الصراع) عقب كلّ محادثة هاتفية مع بوتين، حيث يخرج الإليزيه ببيان رسمي يقول إنّ “الرئيس ماكرون دعا بوتين إلى أن تحرص القوات الروسيّة على تجنّب المدنيين والأهداف المدنية”.

لا يطالب البيان الرسمي الفرنسي بالوقف الفوري للأعمال العسكرية، لكن يطالب بالحفاظ على المدنيين. طالب آخر بيان للإليزيه أمس الأول بالحفاظ على “أمن المواقع النووية الخمسة في أوكرانيا”، لكنّه لا يقول “أمن كلّ أوكرانيا”، وكأنّه يقول “حاربْ، اقتلْ، لكن تجنّب المدنيين وابتعد عن المواقع النووية”.

من قواعد اللعبة الجديدة خفض نفقات الحرب مادّياً وبشرياً لدى الغرب. أصبح واضحاً في حرب أوكرانيا أنّه لا وجود لجندي غربيّ واحد من أعضاء الحلف الأطلسي على أرض أوكرانيا. كما تمّ نقل القوات الخاصة في الحلف لحماية حدود دول الحلف ودعم الدفاع الجوي فيها فقط في حال الاعتداء عليها، لكن ليس متصوَّراً أن يقوم أيّ منهم بعمل إيجابي استباقي.

حساب كلفة العمليات من وجهة النظر الغربية يعتمد مبدأ “دعنا نقدّم مساعدات إنسانية وعسكرية فقط لأنّ إجمالي كلفتها سيكون أقلّ ما بين 80 إلى 90 في المئة من كلفة تورّط قواتنا بشكل مباشر في عمل عسكري لا نعرف كيف ومتى ينتهي؟!”.

من الواضح أنّ الاختبار الحالي لمقياس القوى في أوكرانيا يثبت 4 حقائق جديدة:

1- عدم قدرة كلّ طرف القياس السليم والحقيقي لردود فعل الطرف للآخر. في حين لم تتخيّل واشنطن أنّ موسكو سوف تتهوّر وتدخل أوكرانيا توقّعت موسكو أن تنهي المسألة بحرب خاطفة.

2- الحقيقة الثانية أنّ الكبار يحسبون “الفعل”، لكن لا يحسبون “ردّة الفعل للقرارات”.

إنّ أثر العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي أضرّ بالبورصات العالمية وارتفع سعر برميل النفط من 92 دولاراً إلى 119 دولاراً.

3- من الحقائق أنّ الأزمات الكبرى تؤدّي إلى “ترميم علاقات دول الحلف الأطلسي” بعدما كان يوصف هذا الأخير بأنّه منظمة تحتضر.

4- الحقيقة الصعبة لكلّ الأطراف أن لا عمل عسكريّاً سريعاً يؤدّي إلى تغلّب طرف بشكل حاسم، ولا عقوبات اقتصادية مهما كانت ضاغطة ستؤدّي إلى إيقاف أيّ عمل عسكري حاسم.

هنا برز السؤال العظيم المستخلَص من هذا الصراع في أوكرانيا، وهو: ماذا يحدث غداً لو قامت الصين بضمّ تايوان؟ كيف سيكون ردّ الحلف الأطلسي؟ هل يقدر الاقتصاد العالمي على تحمّل فاتورة مقاطعة الصين التي تُعتبر “مصنع العالم” و”عملاق التجارة العالمية”؟

لننظر جيداً إلى إعلان الصين عن ارتفاع إنفاقها العسكري 7.6 في المئة من دخلها العامّ. سوف تثبت الأيام القليلة المقبلة “حجم الغباء السياسي” و”قوّة مخزون ازدواج المعايير” لدى الغرب حينما ستتمّ سرعة إنجاز الاتفاق النووي مع إيران بهدف سرعة إعادتها إلى ضخّ النفط والغاز في الأسواق لضبط اختلالات الأسعار الحالية.

وكأنّ الغرب يريد أن يسيطر على “جنون بوتين” بإطلاق جنون إيران في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت والمنطقة كلّها!

“دعْ الإيراني يتنفّس حتّى يكتم أنفاس الروس”، تلك هي المعادلة الشديدة الانتهازية، الشديدة الغباء، التي سوف تنقلب على رأس مَن فكّر فيها في واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي.

سيأتي الزمن الصعب إذا ما أصرّت واشنطن على تصعيد خنق موسكو بواسطة مطالبة ما يُعرف بدول “الطرف الثالث” بمقاطعة موسكو، واعتبارها شريكةً لموسكو وطرفاً يستحقّ العقوبات إذا ما استمرّت في أيّ معاملات مع روسيا.

ينطبق هذا الأمر على كثير من دول العالم العربي التي تربطها علاقات تاريخية ومصالح حيوية بروسيا، مثل الجزائر، المغرب، مصر، السودان، الإمارات، السعودية، الأردن، قطر، إسرائيل، إيران وتركيا.

في هذا العالم المضطرب هناك 132 دولة، على الأقلّ، تتعامل مع روسيا في سلعة استراتيجية واحدة على الأقلّ.

في هذا العالم المضطرب نشتري القمح من روسيا وأوكرانيا، ونتعاون مع موسكو في ضبط أسعار النفط وكمّيّات إنتاجه في “أوبك بلاس”.

في هذا العالم المضطرب تقع موسكو صاحبة أكبر مخزون من الذهب (7500 طن)، وصاحبة أكبر عدد من الرؤوس القادرة على حمل سلاح نووي (6,435 سلاحاً)، وصاحبة أكبر احتياط من الغاز الطبيعي (43 تريليون قدم مكعّبة)، وأحد أهمّ تجّار ومنتجي السلاح في العالم.

ما نشهده هو جنون في الأفعال وجنون في ردود الأفعال، وحسابات خاطئة، وخيانات لوعود استراتيجية، وعلاج الأخطاء بخطايا، وتفادي الكوارث بكوارث أكبر.

يا له من عالم جديد ضاعت فيه بوصلة العقل، ونُزع منه الضمير، ويتعيّن على أمثالنا دفع فاتورته.

من هنا نفهم ما قاله الشيخ محمد بن زايد الأسبوع الماضي إلى زعماء فرنسا وبريطانيا وألمانيا، في رسالة واضحة تفسّر الموقف الإماراتي ممّا يحدث في أوكرانيا، وكان واضحاً فيها بشكل حادّ حينما أكّد أنّ “الصداقة والتحالفات أمر مهمّ، لكنّ الأهمّ هو حفاظ بلادنا على مصالحها الوطنية”.

ومن هنا نفهم رسالة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى مجلة “أطلانتيك” الأميركية حينما أكّد أنّ “منطق العقوبات لا يؤدّي إلى تحقيق نتائجه”، وأكّد أيضاً أنّ بلاده تريد التعامل بوضوح وندّيّة مع الجميع، وأنّ الرئيس بايدن يعرف كيف يمكن أن يتعامل مع المنطقة.

بالطبع لا يخفى على أحد أنّ هناك قلقاً كبيراً على مستوى العلاقات بين واشنطن وكلّ من الرياض وأبوظبي والقاهرة منذ أن وصلت إدارة بايدن إلى البيت الأبيض.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: أبعد من الحلف الأطلسيّ

تشعر هذه العواصم بالقلق من أن تدفع فاتورة صراع موسكو مع واشنطن على أرض أوكرانيا.

تواجه هذه العواصم الآن اضطراب أسعار الطاقة وجنون أسعار الناقلات واضطراب النظام الدولي، وتتوقّع أن يتمّ إنجاز اتفاق نووي مع إيران يعيد تأهيل مشروعها القائم على ولاية الفقيه.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…