سيناريو إسقاط بوتين خلال عشر سنوات

مدة القراءة 10 د

إيفو دالدير (Ivo Daalder)*

لم يكن الهجوم الروسي غير المبرّر على أوكرانيا مفاجأة لأحد في الغرب. لقد علمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الخريف الماضي ما تخطّط له روسيا، بل قاموا بكشف خطط الكرملين للعالم. ومع ذلك، فشلوا في منع هجوم روسيا على جارتها الأضعف بكثير. والآن من غير المرجّح أن تنجح الإجراءات نفسها التي فشلت في ثني روسيا عن الغزو من قبل، من مثل العقوبات الشديدة، والمساعدة العسكرية لأوكرانيا، وتعزيز الناتو. بدلاً من ذلك، تحتاج واشنطن وحلفاؤها الديمقراطيون إلى الشروع في استراتيجية احتواء (Containment)، تزيد التكلفة على روسيا، وتفرض في نهاية المطاف تغييراً سياسياً داخلياً يُنهي نظام فلاديمير بوتين الوحشيّ.

الخطوط العريضة لهذا المسار ليست غريبة، وقد وضعها للمرّة الأولى في أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي جورج ف. كينان (George F. Kennan)، وهو كان دبلوماسياً كبيراً في سفارة موسكو آنذاك، وتناولها بالتفصيل في مقال عام 1947 بمجلّة “فورين أفيرز”، تحت عنوان: مصادر السلوك السوفياتي (The Sources of Soviet Conduct). جادل كينان بأنّ جنون العظمة وانعدام الأمن في نظام ستالين يمثّلان خطراً واضحاً على الغرب. ودعا إلى ضغط مضادّ ثابت وقويّ. لكنّ كينان كان يعتقد أيضاً أنّ الاتحاد السوفياتي كان ضعيفاً، ويعاني من التناقضات الداخلية التي من شأنها أن تقوّض النظام في النهاية. استغرقت سياسة الاحتواء 40 عاماً حتى نجحت في إسقاط الاتحاد السوفياتي من الداخل.

لم يكن الهجوم الروسي غير المبرّر على أوكرانيا مفاجأة لأحد في الغرب. لقد علمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الخريف الماضي ما تخطّط له روسيا، بل قاموا بكشف خطط الكرملين للعالم

العودة إلى سياسة الاحتواء

العودة إلى سياسة الاحتواء القويّة هي الآن الخيار الأفضل للغرب. وسيظلّ الهدف الأساسي هو نفسه للسياسة القديمة: مواجهة التوسّع الروسي، وفرض تكاليف حقيقية على النظام الروسي، وتشجيع التغيير الداخلي الذي سيؤدّي إلى الانهيار النهائي لبوتين والبوتينيّة. بالطبع، يجب تكييف سياسة الاحتواء مع المعطيات الحالية بدلاً من تلك التي سادت في نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى وجه الخصوص، ينبغي التعامل مع علاقات روسيا الوثيقة مع الصين القوية والحازمة حديثاً، بشكل استباقي. ومع ذلك، فإنّ روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، الذي كان يتمتّع بقوة عسكرية وأيديولوجية عملاقة تكاد تكون مساوية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنّ روسيا تبقى قوّة نووية، إلا أنّ جيشها هو ظلّ لِما كان عليه من قبل في الاتحاد السوفياتي السابق. واقتصادها أصغر من اقتصاد كندا، التي تضمّ ما يوازي ربع سكّان روسيا. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بات الغرب أقوى. وتحتفظ الولايات المتحدة بقوة عسكرية منقطعة النظير، ولديها اقتصاد أكبر 13 مرّة من اقتصاد روسيا. أمّا أوروبا القارّة المهزومة التي عصف بها العنف والفقر بعد الحرب العالمية الثانية، أضحت عملاقاً اقتصاديّاً متماسكاً مع قوّة عسكرية تتمتّع بقدرات حديثة مهمّة على الرغم من نقص التمويل، ومؤهّلة لمواجهة الجيش الروسي المنتشر إلى أقصى مدى. نتيجة لذلك، وعلى الرغم من أنّ سياسة الاحتواء لن تحقّق نجاحاً أو انتصاراً سريعاً، إلا أنّ تنفيذها الحازم في الأشهر والسنوات المقبلة، ينبغي أن يقود إلى التغيير الضروري في روسيا خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة.

ثلاث ركائز ضرورية

ستقوم سياسة الاحتواء في القرن الحادي والعشرين على ثلاث ركائز رئيسية:

1- الحفاظ على القوة العسكرية الأميركية.

2- فصل الاقتصادات الغربية عن الاقتصاد الروسي.

3- عزل موسكو.

هذه العناصر الثلاثة مجتمعة ستفاقم بشكل مطّرد التكلفة التي تتحمّلها روسيا جرّاء سياساتها التوسّعية، وستشجّع الاعتراض والنقاش في الداخل. وفي النهاية، يمكن أن تفرض تغييراً في الحكم. يجب أن يكون هذا التغيير بدفع داخلي. وهذا لن يحدث إلا عندما يقرّر الشعب الروسي أنّ الوقت قد حان للتغيير.

العودة إلى سياسة الاحتواء لن تؤدّي إلى إنهاء الحرب فوراً في أوكرانيا، بل سيتطلّب ذلك إجراءات إضافية، بما في ذلك تزويد أوكرانيا بالوسائل العسكرية التي تحتاج إليها للدفاع عن نفسها ومقاومة الاحتلال إذا نجحت روسيا في الاستيلاء على جزء من البلاد أو كلّها. فضلاً عن تقديم مساعدات اقتصادية وإنسانية ضخمة لمساعدة السكان المحاصَرين في أوكرانيا، وأولئك الذين أُجبروا على الفرار من البلاد.

 فعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى تحتفظ بجيوش كبيرة، إلا أنّ عقدين من قلّة الاستثمار الأوروبي في المجال العسكري، والانخراط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وأفغانستان، جعلا الحلف الأطلسي غير مستعدّ إلى حدّ كبير للعودة إلى موقف الردع الفعّال.

خضوع الجيش البيلاروسي للقيادة الروسية، وغزو الروس أوكرانيا، يعنيان أنّه يجري رسم خطّ جبهة جديد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. وقد أصبحت الحدود الشرقية لإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا، هي الجناح الشرقي الجديد لحلف الناتو. نتيجة لذلك، يحتاج الحلف الأطلسي إلى التحرّك بسرعة للدفاع عن الجبهة الجديدة. وما اتّخذه أخيراً من خطوات لتعزيز الردع في الشرق لا يكفي، ولن يتمكّن من الدفاع بقوّة إذا هاجمت روسيا أراضي الناتو.

يحتاج الناتو إلى نشر عشرات الآلاف من الجنود، بدلاً من بضعة آلاف الجنود الذين التزم بنشرهم حتى الآن. والمطلب الأكثر إلحاحاً هو نشر لواءين أو ثلاثة ألوية قتالية في شرق بولندا وجنوب ليتوانيا للدفاع عن فجوة سوالكي (Suwalki gap)، وهي تفصل بين كالينينغراد الروسية وبيلاروسيا بمسافة 60 ميلاً. فإذا ربطت القوات الروسية أو البيلاروسية بين هذه الأراضي، فإنّ دول البلطيق ستُعزَل فعليّاً عن بقيّة دول الناتو.

ويستلزم الاستعداد لوجود عسكري طويل الأمد في الشرق، استثمارات كبيرة في الموانئ، وخطوط سكك حديدية، ومطارات، وطرق، وإمدادات من الوقود، وبنية تحتيّة حيويّة أخرى لتحسين قدرة الناتو على تعزيز قوّاته بسرعة. إضافة إلى ذلك، ونظراً إلى تهديدات بوتين باستخدام الأسلحة النووية، ونشر صواريخ ذات قدرة نووية من المحتمل أن تكون مجهّزة في كالينينغراد وأجزاء أخرى من غرب روسيا، وربّما في بيلاروسيا… سيحتاج الناتو إلى النظر في مدى كفاية وضعه النووي. لكن لا يعني أيٌّ من هذا أنّ الناتو بحاجة إلى الاستعداد للحرب.

العودة إلى سياسة الاحتواء لن تؤدّي إلى إنهاء الحرب فوراً في أوكرانيا، بل سيتطلّب ذلك إجراءات إضافية، بما في ذلك تزويد أوكرانيا بالوسائل العسكرية التي تحتاج إليها للدفاع عن نفسها ومقاومة الاحتلال إذا نجحت روسيا في الاستيلاء على جزء من البلاد أو كلّها

شروط النجاح

كي تنجح سياسة الاحتواء الجديدة، يجب أن يتبنّاها جميع الحلفاء الغربيين في أوروبا وأميركا الشمالية وحتى في آسيا. فروسيا، مثل الاتحاد السوفياتي من قبلها، حريصة على استغلال الانقسامات داخل الدول الديمقراطية وفيما بينها. فهي تدخّلت في الانتخابات لسنوات، ودعمت سياسات اليمين المتطرّف في أوروبا وخارجها. استخدمت الرشى، واستغلّت الاعتماد الغربي على الطاقة لتقسيم أوروبا.

رأى بوتين في الانقسامات داخل الناتو، التي زرعها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال السنوات الأربع التي قضاها في منصبه، وفي الخلافات حول أفغانستان، والخلاف الفرنسي الأميركي على بيع الغواصات إلى أستراليا، دليلاً على أنّ الغرب ضعيف ومنقسم. على الأرجح، اعتقد بوتين أنّ الوقت قد حان لتوجيه ضربته.

لكنّ بوتين كان مخطئاً. فقد بدا الغرب موحّداً بشكل ملحوظ في استجابته. حتى قبل هجوم روسيا، توطّدت الوحدة الغربية داخل الناتو وخارجه. ربّما تعلّمت إدارة بايدن من تعثّرها في أفغانستان. وقامت بعمل رائع في الجمع بين حلفائها من خلال تبادل المعلومات، والاستشارة بشكل متكرّر. وظهرت قيادةً حازمةً وصارمة. كانت النتيجة مهمّة: عقوبات قويّة، وتعزيز الردع، وتضامن سياسي كامل مع أوكرانيا.

للحفاظ على هذه الوحدة، ستحتاج الولايات المتحدة، التي ظهرت مرّة أخرى زعيمة للغرب، إلى الاستماع بعناية إلى الحلفاء، وأن تكون على استعداد لتغيير المسار عند الحاجة لإبقاء الجميع على المسار نفسه. ستكون هناك أوقات تثير فيها الانقسامات الداخلية تساؤلات عن صلابة التحالف. خلال الحرب الباردة، بدا أنّ الناتو في أزمة دائمة إلا في الحالات الأكثر خطورة.

ماذا عن الصين؟

هناك فرق مهمّ بين حقبة الحرب الباردة واليوم، وهو مكانة الصين. لم تعد بكين لاعباً قليل الشأن على الساحة العالمية. بل برزت بوصفها أكبر منافس لواشنطن، وأكبر منافس جيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وما وراءها. وظهرت الأزمة الأوكرانية في وقت أصبحت العلاقة بين روسيا والصين وثيقة بشكل خاص. التقى زعيماهما 38 مرّة منذ أن أصبح شي جين بينغ رئيساً للصين في عام 2012، بما في ذلك آخر لقاء إبّان افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. هناك، أصدرا بياناً مشتركاً أشارا فيه إلى أنّ شراكتهما “ليست لها حدود”. وبعيداً عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ألقت بكين باللوم على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لعدم مراعاة المصالح الأمنيّة الروسية بشكل كافٍ. لكنّ تصريحات بكين احتوت على تيّار خفيّ من عدم الارتياح إلى تحرّكات بوتين.

التزم البيان المشترك الصمت بشكل ملحوظ بشأن أوكرانيا. وشدّدت البيانات الرسمية باستمرار على التزام الصين المبدئي بسيادة أوكرانيا، وسلامة أراضيها، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. امتنعت الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين روسيا، بدلاً من الانضمام إلى موسكو في التصويت ضدّه. ولم تعترف بكين أبداً بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو ما يشير إلى أنّها قد تحتفظ بعقل منفتح بشأن مستقبل أوكرانيا. لذلك، هناك مجال للدبلوماسية الهادئة لتقدير ما إذا كان من الممكن إقناع بكين بالمساعدة في الضغط على روسيا. حتّى لو كانت لدى بكين شكوكها بإزاء التحرّك الروسي، إلا أنّه ليس من مصلحتها مساعدة الولايات المتحدة ضدّ روسيا.

إقرأ أيضاً: إسرائيل بعد أوكرانيا: خسائر في إيران وسوريا

يرحّب القادة الصينيون بلا شكّ بتجدّد انشغال الولايات المتحدة بالأمن في أوروبا لأنّه يمنح بكين مزيداً من حريّة المناورة في منطقتها. ومن المرجّح أيضاً أن تساعد الصين في تخفيف بعض الآثار الاقتصادية للعقوبات المفروضة على روسيا، على الرغم من حدود ما يمكن أن تفعله، خاصة في الجانب المالي. لذلك، فإنّ احتواء روسيا يفترض الاهتمام بالصين.

يوم 24 شباط كان انعطافة تاريخية. والقوى الديمقراطية في الغرب مدعوّة مرّة أخرى إلى الدفاع عن نظام قائم على القواعد، ويجري محاولة اقتلاعه بعنف. لحسن الحظّ، تمتلك القوى الغربية القوة الفطرية اللازمة لاحتواء روسيا، والتفوّق على النفوذ الصيني في جميع أنحاء العالم. السؤال الحقيقي الوحيد هو ما إذا كانت لديها الإرادة والتصميم للقيام بذلك في انسجام تامّ.

* رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية وسفير أميركي سابق لدى الحلف الأطلسي.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…