طغى الحدث الذي افتعله الرئيس فلاديمير بوتين، بغزوه أوكرانيا، على كلّ ما عداه. هناك، بكلّ بساطة، محاولة لتغيير العالم وفرض مفاهيم جديدة انطلاقاً من أوكرانيا. لا شكّ أنّ العالم، بعد غزوة أوكرانيا، لن يكون كما قبلها، خصوصاً في حال نجاح بوتين في إخضاع البلد الجار وانتقل إلى مرحلة أخرى في سياق عمليّة استعادة موقع لروسيا شبيه بذلك الذي تمتّع به الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالميّة الثانية. الأكيد أنّ التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه في ظلّ عالم جديد تظلّ الصين، القوّة الاقتصاديّة، من أبرز معالمه.
يبدو أنّ بوتين، المسكون بالتاريخ الروسي وعظمة بلده، يعرف أنّه لم يعد في استطاعته تجاهل الصين التي حرص على زيارتها قبل تنفيذ قراره القاضي بالتدخّل عسكرياً في أوكرانيا. ذهب إلى بيجينغ بغية الحصول على رضاها مستغلّاً افتتاح الدورة الشتويّة للألعاب الأولمبية. تبدو بعيدة تلك الأيّام التي كانت الولايات المتحدة تراهن فيها، أيام الحرب الباردة، على التنافس الصيني – السوفياتي. هذا الرهان عبّرت عنه الزيارة التي قام بها الرئيس ريتشارد نيكسون لبيجينغ في العام 1972، والتي كان مهندسها هنري كيسينجر مستشار الأمن القومي وقتذاك.
ليست الدول العربيّة وحدها التي تتعاطى بحذر مع النتائج التي قد تترتّب على الحيرة والضياع الأميركيّيْن. كانت لافتة إعادة التموضع التركيّة التي قام بها الرئيس رجب طيّب إردوغان الذي أعاد النظر في بعض حساباته مع دول المنطقة
هل تزيد الأزمة الأوكرانيّة إدارة جو بايدن ضياعاً وحيرة… أم تجعلها أكثر وعياً لحقيقة مُرّة. تتمثّل هذه الحقيقة في أنّ ما دفع فلاديمير بوتين إلى الإقدام على خطوة اجتياح أوكرانيا هو اكتشافه نقاط الضعف لدى إدارة جو بايدن. لم يكن الانسحاب الذي نفّذته الإدارة الأميركيّة من أفغانستان، والطريقة التي تمّ بها، سوى دليل على أنّ الفريق المحيط بالرئيس الأميركي يجهل العالم. لا يعرف هذا الفريق معنى طمأنة حلفاء أميركا في العالم والمنطقة إلى أنّ لديهم سنداً يستطيعون الاعتماد عليه. زادت الشعورَ بأنّ أميركا ليست من النوع الذي يمكن الاتّكال عليه، ردودُ فعل إدارة بايدن على ما يحدث في اليمن والموقف الساذج من الحوثيين. بدأ عهد بايدن برفع الحوثيّين عن لائحة الإرهاب.
ثمّة تخوّف آخر في المنطقة من أن تستغلّ إيران أيضاً الضعف الذي يبدو متأصّلاً في إدارة جو بايدن كي تتوصّل إلى اتفاق جديد في شأن ملفّها النووي. سيجعل هذا الاتفاق، في حال التوصّل إليه، العالم يترحّم على الاتفاق الأوّل في عهد باراك أوباما. وُقّع ذلك الاتفاق صيف العام 2015 بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران من جهة، ومجموعة 5+1 من جهة أخرى. كان في الواقع اتفاقاً أميركيّاً – إيرانيّاً يستهدف الحدّ من طموح إيران إلى الحصول على السلاح النووي. لعلّ أهمّ ما في الاتفاق الذي وصفه دونالد ترامب، خليفة أوباما في البيت الأبيض، بأنّه “أسوأ اتفاق” من نوعه، تجاهله للسلوك الإيراني في المنطقة. مثل هذا السلوك هو الذي تشكو منه دول الإقليم التي ترى ميليشيات إيران تعبث، من دون حسيب أو رقيب، في أماكن عدّة. بين هذه الأماكن العراق وسوريا ولبنان واليمن. هل تكرّر إدارة جو بايدن خطأ إدارة أوباما وتذهب إلى اتفاق يسمح لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، في ظلّ ما يجري في أوكرانيا، بتمويل ميليشياتها المذهبيّة في المنطقة؟
في ظلّ الحرب الأوكرانيّة، التي تبدو أقرب ما يكون إلى شرارة لحرب عالميّة، من حقّ دول المنطقة التساؤل: هل توجد إدارة أميركيّة يمكن الاعتماد عليها؟
يبدو أنّ بوتين، المسكون بالتاريخ الروسي وعظمة بلده، يعرف أنّه لم يعد في استطاعته تجاهل الصين التي حرص على زيارتها قبل تنفيذ قراره القاضي بالتدخّل عسكرياً في أوكرانيا
ليست الدول العربيّة وحدها التي تتعاطى بحذر مع النتائج التي قد تترتّب على الحيرة والضياع الأميركيّيْن. كانت لافتة إعادة التموضع التركيّة التي قام بها الرئيس رجب طيّب إردوغان الذي أعاد النظر في بعض حساباته مع دول المنطقة. لم يفعل ذلك بسبب الأزمة الاقتصاديّة التركيّة فحسب، بل أخذ في الاعتبار أيضاً العدوانيّة الروسيّة والضعف الأميركي في الوقت ذاته.
ستحاول إيران الاستفادة قدر الإمكان من انشغال العالم بأوكرانيا، والحاجة التي تُظهرها إدارة جو بايدن إلى اتفاق في شأن ملفّها النووي. يحدث ذلك في وقت ليس في داخل الإدارة من يجرؤ على الاعتراف بأنّ المشكلة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ليست في برنامجها النووي بمقدار ما أنّها في ميليشياتها المذهبيّة وصواريخها وطائراتها المسيَّرة. ثمّة في الإدارة من يذهب إلى حدّ القول إنّ دول أوروبا، على رأسها ألمانيا، في حاجة هذه الأيّام إلى الغاز الإيراني كي يقلّ اعتمادها على الغاز الروسي.
يلد من رحم الحرب الأوكرانيّة عالم مختلف لم تتحدّد معالمه بعد. الثابت أنّ الولايات المتحدة قرّرت التخلّي عن موقعها القيادي الذي تكرَّس في ضوء الانتصار الذي حقّقته إبّان مرحلة الحرب الباردة، وهو انتصار تُوّج بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989، وانهيار الاتحاد السوفياتي رسمياً مطلع العام 1992.
مضت ثلاثة عقود على تفكّك الاتحاد السوفياتي. من يتمعّن جيّداً في الأحداث التي مرّ بها الشرق الأوسط والخليج في العقود الثلاثة، يكتشف أنّ السياسة الأميركيّة في تراجع مستمرّ. لم تفوّت الإدارات المتلاحقة، منذ خروج بوش الأب وفريقه الذي كان على رأسه جيمس بايكر وبرنت سكوكروفت من البيت الأبيض، أيّ فرصة لارتكاب الأخطاء إلّا واستغلّتها. صبّت معظم هذه الأخطاء في مصلحة إيران. لعلّ أبرز تلك الأخطاء اجتياح العراق في العام 2003، وتسليمه إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على صحن من فضّة. كان ذلك في عهد بوش الابن الذي لم يدرك يوماً النتائج المترتّبة على مغامرته العراقيّة. أمّا الخطأ الثاني البارز، فكان في السماح للروسيّ، بعد الإيراني، بالتدخّل عسكريّاً في سوريا كي يبقى بشّار الأسد ونظامه الأقلّويّ في دمشق وكي تستمرّ الحرب التي يشنّها على الشعب السوري…
إقرأ أيضاً: السؤال الأوكرانيّ: Who is the Boss؟
ليس مستبعداً ارتكاب إدارة بايدن خطأ ثالثاً ضخماً في وقت يسعى فيه فلاديمير بوتين إلى تغيير التوازنات الأوروبية ورسم خطوط حمر لحلف شمال الأطلسي (ناتو). هل توقِّع أميركا مع إيران في 2022 اتّفاقاً أسوأ من اتفاق 2015 مستندةً إلى حجج واهية، ومتجاهلةً أنّ المشكلة في المنطقة في المشروع التوسّعي الإيراني قبل أيّ شيء آخر.