السؤال الأوكرانيّ: Who is the Boss؟

مدة القراءة 8 د

ماذا أثبتت عملية “أوكرانيا”؟

بوتين أثبت أنّه نسخة متطوّرة من أستاذه ستالين، وبايدن أثبت أنّه نسخة هرمة وقديمة من باراك أوباما!

وكما سبق أن ذكرنا، بايدن ينسحب من مناطق الصراعات والنفوذ، وبوتين يتدخّل ويحتلّ ويجني ثمار حالة إعادة التموضع والارتباك الاستراتيجيّ الأميركيّ.

القوة بحساباتها الدقيقة اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً تؤكّد التفوّق الأميركي الكامل على الخصم الروسي، لكن مَن قال إنّ معيار القوة هو حجمها فقط، فالأهمّ هو كيفيّة إدارة هذه القوة والإرادة الجريئة القابلة لدخول المخاطر العليا.

هكذا فعل بوتين حينما لم ترتعش يداه في استخدام القوة في الشيشان والقرم وسوريا وأوكرانيا.

وهكذا فعل بايدن حينما انسحب مرتبكاً متخاذلاً من سوريا والعراق وأفغانستان، وسحب بطاريات الباتريوت من السعودية.

 

التحرّش الأميركي الغبيّ بالأمن القومي الروسي، واستفزاز غرور قيصر الكرملين، هما عملية معروفة التداعيات لا تحتاج إلى عبقري في السياسة لكي يقرأ نتائجها المعروفة سلفاً.

أصغر ضابط استخبارات في الـ”سي.آي.إي” يدرك أنّ الجغرافيا السياسية تصنع قرار التاريخ، ويدرك أنّ موقع أوكرانيا بالنسبة إلى دولة روسيا الاتحادية هو موقع “الحديقة الخلفيّة” للأمن القومي الروسي، ويدرك أنّ حقائق الجغرافيا السياسية، كما تبيّن الخارطة، تقول إنّ أوكرانيا دولة تمثّل موقعاً سوبراستراتيجيّاً بالنسبة إلى روسيا الاتحادية، فهي تقع في شرق أوروبا تحدّها روسيا من الشرق، وبيلاروسيا من الشمال، وبولندا وسلوفاكيا والمجر من الغرب، ورومانيا ومولدوفيا من الجنوب الغربي، والبحر الأسود وبحر آزوف من الجنوب.

وأصغر ضابط في الـ”سي.آي.إي” يدرك أنّ محاولة استمالة نظام الحكم في كييف للدخول في عضويّة الحلف الأطلسي تعني تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، لأنّه يعني انكشاف الأراضي الروسية كلّها أمام صواريخ “الناتو” القصيرة والمتوسطة المدى إذا ما تمّ نصبها عند الحدود الأوكرانية-الروسية.

وأصغر ضابط في الـ”سي.آي.إي” يدرك أنّ بوتين أو أيّ رئيس روسي آخر يقود الجيش الروسي ويرأس جهازيْ المخابرات العسكرية والـ”كي.جي.بي” في موسكو لا يمكن مطلقاً أن يقبل بانضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي.

ذلك كلّه يعني أنّ تداعيات هذا الأمر ليس لها إلا “مسار إجباريّ وحيد”، وهو قيام الجيش الروسي بعملية جراحية واسعة لإحداث شلل كامل في القدرة العسكرية الأوكرانية، وإسقاط نظام الحكم الموالي للغرب الموجود في العاصمة كييف.

الهوّة الكبيرة بين الجيشين

“إذا كان ذلك كذلك” فإنّ أصغر ضابط في الـ”سي.آي.إي” يدرك، من غير أن يحتاج إلى وثائق سرّية أو كشف المستور، الحقائق التالية:

1- الجيش الروسي يحلّ في المرتبة الثانية عالمياً من حيث القوة، فيما يحلّ الجيش الأوكراني في المرتبة الـ22.

2- إنّ الإنفاق العسكري الروسي يبلغ 154 مليار دولار، فيما يبلغ الإنفاق العسكري الأوكراني 12 مليار دولار سنوياً.

3- إنّ الجيش النظامي العامل تحت السلاح في روسيا يصل إلى 800 ألف مقاتل، فيما لا يتعدّى الجيش الأوكراني 150 ألفاً (جيش وقوات خاصة).

4- لا تمتلك أوكرانيا سلاحاً نووياً، وأمّا روسيا فهي صاحبة أكبر عدد من الأسلحة القابلة للتشغيل النووي (أكثر من 6,450 سلاحاً)، وذلك على مستوى العالم كلّه.

إذاً يأتي سؤال الأسئلة إذا كان ذلك كلّه معروفاً للعامّة بشكل مسبق وبديهيّ: لماذا أصرّت الإدارة الأميركية بقوّة على “تسخين الملف الأوكراني إلى حدّ الوصول إلى درجة الانفجار؟”.

باختصار، إنّها قراءة مخطئة للعقل السياسي الروسي وموروثه التاريخي، وجهل كامل بقانون الفعل وردّ الفعل الذي يحكم فلاديمير بوتين العقيد السابق في المخابرات الروسية الذي يجيد 5 لغات أجنبية، ويتقن فنون الشعر وكتابة السيناريو وعزف البيانو ولعب الجودو، ودرس القانون وعلوم الصراع السياسي.

.ويعرف أصغر ضابط في الـ”سي.آي.إي” أو المخابرات البريطانية أو الألمانية أنّ بوتين معجب حتى الهوس بأسلوب قيادة ستالين للبلاد، ويعرف أيضاً أنّ بوتين عاشق لتاريخ وأمجاد الإمبراطورية الروسية، ثمّ لإنجازات الاتحاد السوفياتي القديم

الغباء الاستراتيجي

إذا كان المخطِّط الاستراتيجي الأميركي يحسب أنّ استدراج بوتين إلى الفخّ الأوكراني هو عمل ذكي استراتيجياً، فذلك هو قمّة الغباء الاستراتيجي بعينه لأنّ ذلك سيكون بمنزلة خدمة العمر لتبرير حلم الرجل استعادة دويلات الاتحاد السوفياتي القديم.

الآن يستطيع لافروف أن يقف في مؤتمر صحافي عالمي ويقول إنّ أوكرانيا خالفت اتّفاقيْ مينسك الأول والثاني، وإنّ إدخال أوكرانيا في الحلف الأطلسي هو تهديد مباشر لبلاده، وإنّ شحنات السلاح الأميركية والبريطانية الأخيرة البالغة قيمتها 2.7 مليار دولار، والتي دُمّرت في المخازن منذ أيام، هي تهديد صارخ لدولة روسيا الاتحادية.

الآن يصبح مبرَّراً لبوتين ضمّ القرم وإعلان استقلال الدولتين الانفصاليّتين والقيام بضربات جراحية شاملة واحتلال مفاصل أوكرانيا وإسقاط نظام الرئيس زيلينسكي.

تمّ ذلك كلّه وسط إعلان مسبق وصريح وواضح من الرئيس بايدن بالصوت والصورة قبل هذه العمليات بـ6 أسابيع أنّ “أيّ عملية عسكرية روسية محدودة لن تستدعي ردّ فعل عسكرياً من جانبنا”، وكأنّ بايدن يقول لبوتين “ادخل أوكرانيا بلا خوف ولا تردّد لأنّنا لن نواجهك”.

ووصل الارتباك والضعف الأميركيّان إلى الذروة حينما أكّد البيت الأبيض في بيان رسمي عدم تدخّل واشنطن عسكرياً في أوكرانيا على أساس أنّها ليست دولة عضواً في الحلف الأطلسي ولا تنطبق عليها المادة الخامسة من ميثاق الاتفاقية التي تنصّ على أنّه “في حال الاعتداء على دولة عضو فإنّ الجميع مطالب بالدفاع عنها”.

التاريخ الأميركي مليء بالتدخّلات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة دول لم تعقد أيّ اتفاق معها، مثل كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق، مروراً بعمليات في لبنان وغرينادا وصربيا.

للوهلة الأولى تبدو المسألة صراعاً أميركياً روسياً، ويبدو مسرح العمليات هو أوكرانيا، لكنّ الحقيقة أنّها لحظة وتجربة اختبار استراتيجي ومرحلة صياغة مراكز القوى في عالم متغيّر يعيش حالة سيولة غامضة.

ويعرف أصغر ضابط في الـ”سي.آي.إي” أو المخابرات البريطانية أو الألمانية أنّ بوتين معجب حتى الهوس بأسلوب قيادة ستالين للبلاد، ويعرف أيضاً أنّ بوتين عاشق لتاريخ وأمجاد الإمبراطورية الروسية، ثمّ لإنجازات الاتحاد السوفياتي القديم.

الولايات المتحدة الأميركية في حالة قلق أسطوري وارتباك تاريخي لشعورها نظريّاً وفعليّاً أنّ مقعد الرئاسة المنفردة لمجلس إدارة العالم ينسحب بقوّة من تحتها

المستفيد الصيني

يعرف 7 مليارات وسبعمئة مليون نسمة، هم كلّ سكان العالم، السرّ العلني، وهو أنّ بوتين يعتقد أنّ تفكّك الاتحاد السوفياتي القديم والتفريط بجمهوريّاته السابقة هما “كارثة تاريخية يتعيّن على كلّ روسي مخلص أن يعمل على إصلاحها بأيّ ثمن”.

تقول الإحصاءات العلمية أنّ أكثر من 42 في المئة من سكان روسيا الاتحادية يتمنّون عودة جمهوريات الاتحاد السوفياتي مرّة أخرى إلى “الوطن الأمّ”.

وعلى الرغم من كلّ هذه المعرفة الكاشفة الواضحة سعت واشنطن ولندن وباريس إلى محاولة التغرير بمشاعر الرئيس الأوكراني ووعدته ببطاقة عضوية بلاتينية في نادي الدول الغربية المتقدّمة والحلف الأطلسي، ثمّ حينما “جدّ الجدّ” نظر الرجل حوله فلم يجد سوى دعم شفهي ومجموعة عقوبات غير رادعة.

الولايات المتحدة الأميركية في حالة قلق أسطوري وارتباك تاريخي لشعورها نظريّاً وفعليّاً أنّ مقعد الرئاسة المنفردة لمجلس إدارة العالم ينسحب بقوّة من تحتها.

من هنا كان لا بدّ من تعطيل الصعود الصيني-الروسي بأيّ ثمن، وإعادة ترتيب الاهتمام الاستراتيجي الأميركي من الخليج العربي والشرق الأوسط إلى جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ.

من هنا تصبح “عمليّة أوكرانيا” من منظور الاستدراج الأميركي هي تطبيق لنظريّة “انقلب السحر على الساحر”، وبلغة لعبة البوكر فإنّ اللاعب الروسي “فهم البلوف” الأميركي ونزل بكلّ إرادته وبكل قوّة كي يحصد كلّ ما هو على طاولة اللعب بلا هوادة من دون أن يبقي شيئاً.

إقرأ أيضاً: عن حقّنا في أن نشمت بأوروبا.. ونتحمّس للقيصر!!

إنّها لعبة أراد فيها اللاعب الأميركي الصانع والمهيمن على مركز القرار في العالم أن ينفي غروب وأفول قوّته وضعف رئاسته للعالم، فإذا به يؤكّد ضعفه وارتباكه بسبب سوء إدارته، ويؤكّد في الوقت عينه أنّنا في عالم انتهت فيه الرئاسة الوحيدة لواشنطن.

إنّنا في عالم أراد فيه الأميركي أن يقول إنّه ما زال الـBoss، فجاء ردّ بوتين عليه في أوكرانيا ليقول له: “I am the boss”. وكلّ ذلك لمصلحة لاعب وحيد اسمه العملاق الصيني!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…