إسرائيل وأزمة أوكرانيا

سيناريو إخضاع أوكرانيا لنفوذ روسيا باعتبارها الأقرب ثقافيّاً وجغرافيّاً إليها، ودولة عازلة عن أوروبا، لا يبدو طارئاً أو متعجّلاً، وإنّما يسير وفق خطط مدروسة منذ وصول بوتين إلى الكرملين، ويؤيّده في هذا المنحى معظم القوميين الروس، الذين يتّهمون الولايات المتحدة بأنّها كانت وراء انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفياتي، والأهمّ أنّ هذا الصراع لم يعد صراعاً محليّاً بين روسيا وأوكرانيا، بل صداماً واسعاً على نظام عالمي جديد.

ليس استعراض موسكو لقدراتها العسكرية في أوكرانيا شيئاً جديداً، مع أنّ كلّ السيناريوهات مطروحة في ظلّ التصعيد والتصعيد المقابل، والتهديدات بين روسيا من جهة، وواشنطن والناتو من جهة أخرى، وأزمة مركّبة تحمل في داخلها أكثر من بعد. وتعتبر روسيا أنّ تمدّد حلف الناتو شرقاً يشكّل لها ثغرة أمنيّة في عقر دارها، ويرتبط ذلك بعقيدتها الأمنيّة التي ورثتها على مدار قرون من روسيا القيصرية، إذ تعتبر روسيا أنّ أمنها القومي يبدأ عند حدود دول الجوار القريب، وليس من حدود روسيا الفعلية.

لوّح الرئيس الأميركي جو بايدن بأنّ بلاده سوف تبدأ “من أعلى سُلَّم التصعيد”، أي التدخّل عسكرياً، وبعقوبات اقتصادية كاسحة قد تصيب الاقتصاد الروسي بالشلل، في حال غزو أوكرانيا

لذلك من الصعب التوقّع كيف ستتطوّر الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وإذا ما كانت ستنتقل من مرحلة التهديد والتحشيد إلى المواجهة العسكرية في حال اجتاحت روسيا أوكرانيا. ولكن يبدو أنّ سيناريو الحرب الشاملة مؤجّل حالياً، ويبقى النزاع في إطار الرقص على حافّة الهاوية الذي يهواه القيصر بوتين، وذلك  للضغط على واشنطن وأوروبا في سبيل التأثير على نتائج المفاوضات المتعلّقة بتمدّد حلف الناتو نحو شرق أوروبا والتعهّد بمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وربّما يتطوّر النزاع إلى إطار الحروب الصغيرة كسيناريو قره باغ، وسيناريو القرم.

وتُعدّ أوكرانيا أحد منافذ روسيا الثلاثة إلى العالم، والرقعة الجغرافية التي تحول دون إمكانية تطويقها. وتشكّل أوكرانيا حلقة وصل رئيسة في طرق نقل الطاقة، إذ يمرّ عبرها 80% من صادرات الطاقة الروسية.

تجد واشنطن في تصاعد التوتّر المتجدّد حول أوكرانيا فرصة لتقييد روسيا وعرقلة قيامها بترميم علاقاتها مع عواصم أوروبية، ولا سيّما باريس وبرلين، ومنع تشغيل خطّ غاز “السيل الشمالي 2” من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وقد لوّح الرئيس الأميركي جو بايدن بأنّ بلاده سوف تبدأ “من أعلى سُلَّم التصعيد”، أي التدخّل عسكرياً، وبعقوبات اقتصادية كاسحة قد تصيب الاقتصاد الروسي بالشلل، في حال غزو أوكرانيا. وعلى عكس ما قام به ترامب، الذي بدأ عهده بتحديد جبهة الخصوم بكلّ من كوريا الشمالية وإيران، جاء جو بايدن ليحدّد أنّ أوّل الخصوم هي روسيا، وهذا يعني أنّ واشنطن تسعى بكلّ قوّة إلى فتح حرب سياسية على روسيا. وحتى تنجح واشنطن في مسعاها، فإنّه لا بدّ لها أن تتفرّغ للمهمّة تماماً، لذا أغلقت ملفّ أفغانستان، وهي تسابق الزمن من أجل إغلاق الملفّ الإيراني.

ولكن فجأة أُعلن تعليق الجولة التفاوضية السابعة لمحادثات فيينا، بعدما كانت التوقّعات بأنّ اتفاقاً نووياً وشيكاً بين الولايات المتحدة وطهران، وقد تكون لهذا التعليق علاقة بما يحدث من توتّر على حدود أوكرانيا، حيث أدركت موسكو هدف إدارة بايدن من التوصّل إلى اتفاق.

ولكن ماذا عن إسرائيل، التي تسعى إلى عرقلة أيّ اتفاق نووي محتمل، وكيف تنظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية؟

ليست إسرائيل دولة مجاورة لطرفيْ الأزمة، لكنّ لديها الكثير ممّا ستخسره إذا نشبت هذه الحرب. فليست تل أبيب مدينة ملاهٍ وحسب أو ملجأ للطبقة الأوليغارشية الروسية – الأوكرانية وأرباب المال، الذين لديهم جنسية إسرائيلية بفعل جذورهم اليهودية، إلى جانب مئات الآلاف من الروس والأوكرانيين الذين يعيشون في إسرائيل، على مدار ثلاثين عاماً منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، بل إنّ الموضوع أعمق، فتل أبيب حريصة على العلاقة مع موسكو التي وصلت إلى مكان غير مسبوق من التنسيق، خصوصاً في السماء السورية ومن أعلى مستويات قيادية بين البلدين، منذ تدخّلت طائرات السوخوي الروسية لإنقاذ نظام كان قد شارف على نهايته. وهناك خط ساخن بين غرفة العمليات الروسية في قاعدة حميميم في اللاذقية وبين قيادة سلاح الجو في تل أبيب. يمكّن هذا التنسيق إسرائيل من مواصلة العمل ضدّ أهداف إيرانية في سورية.

وبالطبع، يعود الفضل في ذلك إلى اللوبي اليهودي في روسيا، وهو قويّ جدّاً، ولا يقلّ تأثيرهُ عن اللوبي المؤيّد لإسرائيل في الولايات المتحدة، ويسيطر على المراكز الاقتصادية والتجارية في روسيا، وتربط بين زعماء اليهود في روسيا والطبقة الأوليغارشية التي تحيط ببوتين علاقات وثيقة. لذلك ليس من الغريب أن تختلف روسيا وأميركا في كلّ مكان، وتتّفقان في الحفاظ على أمن إسرائيل. ومن خلال كلّ ذلك يُمكن أن نفهم لماذا لم تسمح موسكو لدمشق باستخدام صواريخ إس 300، التي اشترتها منها سورية، في مواجهة اعتداءات إسرائيل.

في لقاء سوتشي، قبل أربعة أشهر، اقترح نفتالي بينيت على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يستضيف في القدس قمّة تجمعه مع نظيره الأوكراني، فلاديمير زلنسكي. فإسرائيل من الدول القليلة التي لها علاقات دبلوماسية دافئة وقوية مع كييف وموسكو في الوقت ذاته.

وهناك قلق إسرائيلي واضح من هذه الأزمة الأوكرانية، لأنّه ببساطة مهما حاولت تل أبيب أن تبدو في موقع الحياد، فإنّ خطوة دراماتيكية من جانب روسيا بغزو أوكرانيا ستجبر إسرائيل على أن تختار جانب واشنطن حليفتها الاستراتيجية الأولى وحلف الناتو.

لا تستطيع إسرائيل أن تعيش خارج فضاء الحلف الأطلسي، فهي توجد في مكان متميّز جدّاً من ناحية منظومة علاقاتها مع جيوش حلف الناتو، وتُعامَل إسرائيل كأيّ عضوٍ في الناتو من دون أن تنضمّ رسميّاً إليه، وتحصد مكاسب جمّة على كلّ الصعد من وراء هذه العلاقة الخاصة. فهي عضو في الناتو، لكن غير مُسجّل، بقرار من تل أبيب نفسها، بسبب أنّ العضويّة في الحلف الأطلسي قد تعمل على تقييد العمل العسكري الإسرائيلي، وعدوانها المتكرّر على غزّة، والعديد من المناطق العربية، وهذا غير مقبول عمليّاً بالنسبة لإسرائيل.

إقرأ أيضاً: هل تعود الحرب الباردة بين أميركا وروسيا؟

ويخشى رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت والمؤسسة الأمنيّة الإسرائيلية من تداعيات غزو روسيّ لأوكرانيا. وبحسب المحلّل العسكري طل لف رام، فإنّ الخشية من أن يؤثّر أيّ “غزو روسي” على ما يحصل في الشرق الأوسط، إذ قد تجعل منه إيران فرصةً لاستغلال حرف الانتباه عنها وتتقدّم في أهدافها النووية. ورأى رام أنّه “إذا قامت روسيا في نهاية المطاف بغزو أوكرانيا، فإنّ اهتمام الإدارة الأميركيّة والبيت  الأبيض بالمصالح الإسرائيلية في كلّ ما يتعلّق بالمعركة مع إيران، من المحتمل أنْ ينخفض”، وستختلف الأجندة الدولية بالتأكيد.

مواضيع ذات صلة

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…

الكويت والعراق.. “طاح الحطب” شعبيّاً

ليل السبت 7 أيلول الحالي، عبَرَت سيارة عراقية الحدود مع الكويت آتية عبر البصرة في جنوب بلاد الرافدين، لتطوي 34 سنة من المنع منذ قام…