شكّل صدمةً لأهل السنّة في لبنان قرار سعد الحريري “تعليق العمل بالسياسة”، إن لفترة مؤقّتة أو بشكل دائم، وبخاصّة لجمهور تيّار المستقبل. حتى قيادات هذا التيّار، على الرغم من معرفتها بقرار الحريري منذ أسابيع وعلمها بحيثيّاته الشخصيّة والسياسيّة الداخلية والإقليمية، بدا عليها الذهول والتوتّر بعد تلاوة نصّ القرار، خاصة أنّ الحريري دعا عائلة تيار المستقبل إلى أن تحذو حذوه وتعزف عن الترشّح في الانتخابات النيابية المُقبلة.
ربّما أكثر مَن يفهم صدمة جمهور التيار الأزرق ومسؤوليه وقياداته ويتفهّمها هم القوّاتيّون. فصدمة “المستقبليّين” بقرار الحريري، تشبه إلى حدٍّ بعيد صدمة القوّاتيين بحلّ حزب القوات في نيسان 1994 واعتقال سمير جعجع. حينذاك اعتقد القوّاتيّون أنّ كلّ شيء قد انتهى وأنّ كلّ النضالات والتضحيات ذهبت سدىً بما فيها دماء الشهداء وإصابات المعوّقين ودموع الأمّهات وصيحات الآباء… لكن لا. فبعد 11 سنة وثلاثة أشهر خرج “الحكيم” من المعتقَل وعادت القوات حزباً له حضور سياسي أكبر من ذي قبل.
بعد اغتيال رفيق الحريري ونشوء جبهة 14 آذار العريضة، كان جعجع والحريري يعملان كتفاً إلى كتف من أجل استعادة الدولة
ما سمعناه من بعض جمهور تيار المستقبل الغاضب (ونشدّد على كلمة “بعض”) ومن بعض مسؤوليه الشباب المتحمسين للعمل السياسي، من تهجّمٍ على القوات اللبنانية وتحميلها مسؤولية قرار الحريري هو في غير محلّه، وفيه تجنٍّ على القوات ورئيسها الذي ربّما استعجل في إعلانه الإصرار على التنسيق مع “الأصدقاء والإخوة في تيار المستقبل ومع كلّ أبناء الطائفة السنّيّة في لبنان…”. ولا اعتقد أن قيادات تيار المستقبل التاريخية توافق على هذا الخطاب المتحامِل على القوات. وهي تعمل على احتوائه.
علاقة جعجع – الحريري
العلاقة بين سعد الحريري وسمير جعجع لم تكن على ما يُرام بعد ذاك الاستحقاق المشؤوم: انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. ووصلت إلى حدّ القطيعة بين الرجلين في المرحلة الأخيرة التي سبقت قراره. لهذا السبب لم يلتقِ الحريري سمير جعجع في الجولة التي قام بها قبل إعلان قراره، على غرار لقائه نبيه برّي ووليد جنبلاط. رغم العلاقة التاريخية بين المستقبل والقوات، ومسيرة نضال مشتركة وأهداف سياسية واحدة ومصير واحد.
بدأت العلاقة بين القوات والمستقبل مع بدء تواصل رفيق الحريري وسمير جعجع في تسعينيّات القرن الماضي. جمعت لقاءات كثيرة الرجلين. ونشأت علاقة ثقة بينهما. حتى إنّ سمير جعجع، القلِق دائماً على حياته والمتشكّك باستمرار في إمكانيّة حدوث خرق أمنيّ، كان يوافق أن يقوم الفريق الأمنيّ للحريري بمساعدة فريقه المولج حمايته ومواكبته لتأمين انتقاله من غدراس إلى قريطم. وكان سمير جعجع على يقين أنّ رفيق الحريري براء من الحملة ضدّ القوات اللبنانية وعناصرها ومناصريها التي شنّها النظام الأمني السوري – اللبناني. وهو بطبيعة الحال لم يشارك في قرار اعتقاله وزجّه في السجن لِما يقارب أحد عشر عاماً. وربّما لم يكن على عِلم به قبل حدوثه. ولا عجب أن تكون العلاقة جيّدة بين الرجلين. فالحريري تبوّأ موقع رئاسة الحكومة بهدف إعادة بناء الدولة. و”الحكيم” سلّم سلاح القوات اللبنانية ليشارك في إعادة بناء الدولة بعد إقرار اتّفاق الطائف الذي وفّر له الغطاء المسيحي مع البطريرك الراحل نصرالله صفير.
لبنان أوّلاً
بعد اغتيال رفيق الحريري ونشوء جبهة 14 آذار العريضة، كان سمير جعجع وسعد الحريري يعملان كتفاً إلى كتف من أجل استعادة الدولة. رفع تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري شعار “لبنان أوّلاً”. وساهم سمير جعجع في تمتين التيار السيادي من أجل استكمال معركة إنهاء الوجود السوري المتغلغل في الدولة وأجهزتها وإداراتها. لم يقُم جعجع بما قام به ميشال عون، الذي ما لبث أن خان “14 آذار” وتحالف مع حزب الله “زعيم 8 آذار”، معتبراً أنّ الخروج السوري قد تحقّق وأنّ المعركة أصبحت معركة استرداد حقوق المسيحيين. وأوّل ما قام به عون هو الهجوم على “الحريريّة السياسية”.
بعدما أسقط مع حزب الله حكومة الحريري الأولى، أعلن عون أنّه قطع له One way ticket، وأنّه ذهب ولن يعود. في حين أنّ مَن سلب حقوق المسيحيين في الدولة وإداراتها بدعم من الوصاية السورية هم حلفاؤه الجُدد.
بدأت العلاقة بين القوات والمستقبل مع بدء تواصل رفيق الحريري وسمير جعجع في تسعينيّات القرن الماضي.
على الرغم من سوء العلاقة بين سعد الحريري وسمير جعجع في السنوات الأخيرة بقي جمهورا التيّارَيْن قريبَيْن بعضهما من البعض الآخر، ما خلا بعض المعارك الإلكترونية “الموضعيّة” التي خاضاها بعضهما ضدّ البعض الآخر. وقد التقيا عفويّاً في ساحات “17 تشرين”. التقيا في بيروت وطرابلس وصيدا والذوق وجلّ الديب…
المهمّ اليوم هو المستقبل.
قرار سعد الحريري، الذي أصبح الكلّ يعرف ظروفه وحيثيّاته، والفراغ الذي خلّفه على الساحة السنّيّة، يجب أن يكونا حافزين للتطلّع نحو المستقبل. وهذه مسؤولية قيادات تيار المستقبل والشخصيّات السنّيّة وغير السنّيّة التي كانت ولا تزال في أساس هذا التيار السياسي العريض والعابر للطوائف، ولو أنّها ابتعدت أو اُستُبعدت من تنظيمه في السنوات الأخيرة. شخصيات تعمل على ذلك انطلاقاً من وعيها لخطورة المرحلة ودقّتها، ولأهمّيّة الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة، ولصعوبة خوضها بعد قرار سعد الحريري وغياب تيار المستقبل عنها.
لا بدّ من النظر إلى المستقبل واستعادة التحالف القوّي بين كلّ الأطراف السياديّة في البلد من أجل تشكيل جبهة سياسية واحدة تضمّ أحزاباً وتيّارات سياسية وشخصيات مستقلّة من كلّ الطوائف. فالقضية واحدة، وهي الحفاظ على الكيان والدستور وإعادة بناء الدولة. والنضال السياسي واحد في مواجهة الاحتلال الإيراني للبنان المتجسّد بهيمنة حزب الله على الدولة. والرؤية واحدة للبنان بلد العيش المشترك، بلد التوازن، بلد الحياد عن محاور الصراعات في المنطقة، البلد المتصالح مع العالم العربي والمتفاعل معه، بلد الازدهار والاقتصاد الحرّ والسياحة والثقافة المنفتحة… معركة هذا اللبنان تبدأ من اليوم وتُتوَّج في الانتخابات النيابية المُقبلة بإيصال أكبر عدد من النواب من هذا التيار السياديّ.
المرحلة النضالية المقبلة ستكون أصعب لعدّة أسباب، أبرزها:
1) الاحتلال الحالي يُنفَّذ بواسطة طرف لبناني.
2) ظروف المواجهة ضعيفة في ظلّ الانهيار الحاصل في البلاد.
3) تراجع ثقة ودعم القوى الإقليمية والدولية في هذه المواجهة.
إقرأ أيضاً: الصوت السنّي: “دفاع” المستقبل.. في وجه تسلّل معراب
بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل، لا بوصفه تنظيماً سياسياً بل تيّاراً سياسياً في الطائفة السنّيّة وخارجها، علاقة تعمّدت بالدم منذ اغتيال بشير الجميّل، إلى اغتيال المفتي حسن خالد، وصولاً إلى اغتيال رفيق الحريري،… ووسام الحسن ومحمد شطح. وفاءً لدماء الشهداء ومن أجل استكمال نضالهم يجب أن يعودا معاً حتى تحقيق الاستقلال الثالث. وسيعودان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة