“تيّار المستقبل” في وضع صعب. قلوب بعض القيادات مع رئيس “التيار” سعد الحريري، وهي لا تزال تحت هول الصدمة وتأثيرها وخلفيّاتها، فيما عقولهم في مكان آخر. وثمّة خشية على المصير السياسي وعلى الوجود.
تتزاحم الأسئلة في الأذهان وعلى طاولات النقاش: كيف ستُدار المرحلة المقبلة؟ هل هو الاعتكاف الشامل أم الجزئيّ أم المموّه؟ هل تكون فترة الانكفاء طويلة لا تنتهي إلّا مع انتهاء ولاية البرلمان المقبل الذي سيولد على وقع خروج نجل رفيق الحريري من المسرح السياسي؟ أم سرعان ما ستنتهي بعد تحسين حيثيّة موقعه التفاوضي ليتمكّن من خوض الاستحقاق بأقلّ “قيود” ممكنة؟
يقول مسؤول حزبي ممّن له خبرة في العمل الانتخابي إنّ الاقتراع لدى السُنّة قد ينخفض إلى نصف ما كان عليه في الدورة الأخيرة
لا تقتصر التساؤلات الوجودية على “المستقبليين”، بل تحضر أيضاً على طاولات حسابات بقيّة القوى السياسية، لتتفرّع إلى أسئلة عن كيفيّة مواجهة الاستحقاقات المقبلة: هل يضمن رئيس مجلس النواب نبيه برّي عودته إلى رئاسة برلمان 2022 إذا ما تشتّت الصوت السنّيّ بين حليف وخصم؟ وما هي توازنات البرلمان الذي سينتخب رئيس الجمهورية المقبل؟
تُثبت هذه الفرضيّات أنّ الضبابيّة تحيط بطبيعة المرحلة المقبلة، إذا ما جرت الانتخابات النيابية في موعدها تحت ظلال رغبة دولية واستسلام داخلي لقَدَر صناديق الاقتراع. خصوصاً أنّ كيفيّة تصويت الجمهور السنّيّ لا تزال موضع نقاش أوّليّ.
60 مقعد سيتأثّر
يقول مسؤول حزبي ممّن له خبرة في العمل الانتخابي إنّ الاقتراع لدى السُنّة قد ينخفض إلى نصف ما كان عليه في الدورة الأخيرة، مشيراً إلى أنّ حوالي 60 مقعداً نيابياً سيتأثّرون بمزاج هذا الشارع بسبب وجود مقترعين سُنّة في عدد كبير من الدوائر.
لعلّ هذه المعادلة هي ما رفع من منسوب الخصومة بين “تيار المستقبل” و”القوات”، على أثر كلام رئيس الحزب سمير جعجع عن نيّته “التعاون” مع “المستقبل” على الرغم من قرار رئيسه بالتنحّي. وفق بعض “المستقبليّين”، فإنّ كلام رئيس حزب “القوات” فضح نوايا هذا الفريق وسلوك قيادته، وأثبت بما لا يقبل الشكّ أنّ العلاقة بين بيت الوسط ومعراب تجاوزت الخطوط الحمراء في خصومتها، على نحوٍ صارت عودة عقارب الساعة إلى الوراء غير واردة أبداً.
وفق بعض المتابعين، فإنّ جعجع يعمل ضمن استراتيجية قد تضمن تحوّله إلى رئيس أكبر كتلة مسيحية، متيحةً له أن يفرض نفسه المرشّح “الأقوى” لرئاسة الجمهورية
يتصرّف “المستقبليون” على أساس استحالة التحالف من جديد بين “القوات” وفريقهم السياسي، ولو أنّهم يجزمون أنّ أصوات قواعدهم هي هدف معراب، عبر طريقين: إمّا دخول الرياض على خطّ تشجيع الشارع السنّيّ لتأييد لوائح القوات والتصويت لمصلحتها، وإمّا خرق “القوات” مباشرة في عمق هذه البيئة للغَرف منها.
هذه الخشية دفعت “المستقبليين”، ولا سيّما من يحتلّون الصفوف الأمامية، إلى التصدّي سريعاً لمحاولات “القوات” مدّ يدها إلى “التركة الزرقاء”. خصوصاً أنّ حالة التعاطف التي لاقاها الحريري فور إعلان اعتكافه، زادتهم يقيناً أنّ “تيار المستقبل” لم يفقد شارعه. ما يعني أنّ تعاطي بقيّة القوى السياسية مع قرار العزوف وكأنّ شيئاً لم يحصل سيُنشىء وضعاً غير سليم يشوبه الخلل.
جردة حساب مستقبلية
أكثر من ذلك، يميل “المستقبليون” إلى إجراء جردة حساب مع بقيّة القوى السياسية، في محاولة لاستخلاص العِبر من المرحلة الماضية، كأن يقارنوا، على سبيل المثال، بين سلوك الأقطاب الموارنة إزاءهم: سمير جعجع وجبران باسيل وسليمان فرنجية. فالأول والثاني تقاسما أصوات “المستقبل” في انتخابات 2018، ولم يتردّد الحريري في حجب أصواته عن لائحة المردة في زغرتا بحجّة ارتباطه بالتيار الوطني الحرّ وميشال معوّض. وقد تقبّل فرنجية الأمر حتى إنّه منح صوته للحريري في آخر تكليفين لرئاسة الحكومة، الأمر الذي لم يقُم به كلّ من جعجع وباسيل في آخر جولة. ويتذكّر هؤلاء مجريات طاولة الحوار في قصر الصنوبر برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين قال رئيس تيار المردة بوضوح إنّه يؤيّد قيام حكومة وحدة وطنية برئاسة الحريري.
يشير هؤلاء إلى أنّ القوات تسجّل على المستقبل مآخذ التفاهم مع الثنائي الشيعي، فيما تنسى معراب أنّها سارعت إلى صياغة تفاهم شبيه مع “التيار الوطني الحر” أدّى إلى وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
وفق بعض المتابعين، فإنّ جعجع يعمل ضمن استراتيجية قد تضمن تحوّله إلى رئيس أكبر كتلة مسيحية، متيحةً له أن يفرض نفسه المرشّح “الأقوى” لرئاسة الجمهورية، على قاعدة شرطين أساسيّين: القضم من الطبق السنّيّ، واحتضان شارع “الثورة”، خصوصاً بعد أحداث الطيّونة التي اعتقد أنّها قد تجعل منه زعيم المعارضة وكلا الاحتمالين صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً.
إقرأ أيضاً: باسيل وجعجع وجنبلاط: مأزق الصوت السنّي
ها هو “تيار المستقبل” يسارع إلى تحريض شارعه بوجه معراب، وقد يصعّب تشظّي الجمهور السنّيّ أيّ جمعٍ قد تقوده السعودية لتنظيم مرحلة ما بعد الحريري. في حين أنّ الأحداث تدلّ على أنّ “مجموعات الثورة” تكفّر “القوات” كما بقيّة القوى السياسية. ولذلك لا يزال مشروع جعجع دون القدرة على تحقيقه، فضلاً عن حالة الخصومة التي تشوب علاقة القوات بمعظم القوى السياسية الأساسية.