تعيش أوروبا أوقاتاً عصيبةً، جرّاء الحرب المحتملة في شرق القارّة، وحديث العالم عن الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا. تدرك أوروبا أنّ حرباً كهذه ستمثِّل تهديداً للأمن والسلم في القارّة العجوز، إذ ستبدأ بسببها خطوط الهجرة وتتوقّف خطوط الغاز.
في تقديري أنّ خطراً أكبر يواجه أوروبا، لكنّه لا يحظى بالاهتمام الكافي في عواصمها. إنّه ذلك الزحف القادم من الجنوب، في حين لم يتمكّن الليبيون من استعادة دولتهم، وهزيمة الإرهاب القادم من إفريقيا والعابر من آسيا.
تحتاج النخبة الأوروبية إلى أن تستيقظ، وأن تدرك أنّ العالم العربي وأوروبا في سفينة واحدة، لا يمكن لنصفها أن ينجو من دون النصف الآخر
عام 2014.. الخوارج الجدد
في عام 2014 ظهر تنظيم داعش، وظهرت إلى العلن خلافته المزعومة في سوريا والعراق، وراحت صور مجرمي التنظيم وهم يرتدون أزياءهم السوداء، وبيدهم أدوات الذبح البيضاء، تغزو العالم، حتى باتت هذه الصور المروِّعة هي صورة المسلمين لدى دوائر اليمين المتطرّف في الغرب.
بعد قليل من صعود التنظيم في المشرق العربي، نشأ تنظيم داعش في ليبيا في نهايات العام 2014. ونشأت معه حوادث عديدة لتمويل الإرهاب الجديد، من سرقة مصارف، والاستيلاء على أموال تحملها طائرات، إلى خطف رجال الأعمال وأفراد العائلات ثمّ إعلام ذويهم بأنّهم أمام الفدية أو القتل.
حظي تنظيم داعش ليبيا بدعم غامض من خارج الحدود، إذ كانت بعض السفن تُفرغ حمولات السلاح على السواحل الشمالية لليبيا، وكانت بعض الطائرات تهبط بالمال والسلاح اللذين كان يجري توزيعهما بين جماعات إرهابية مختلفة، من بينها داعش.
كانت الأموال والأسلحة القادمة من تركيا وقطر من بين أهمّ الروافد الغامضة لتدمير الدولة والمجتمع. ولقد ساعدت هذه “المعونات السوداء” في انطلاق عصر الميليشيات في ليبيا.
عام 2015.. فيلم “السرب” يشرح ما جرى
في شهر كانون الثاني 2015 اختطف تنظيم داعش ليبيا 21 من المصريين الأقباط، وبعد أربعين يوماً قام التنظيم بإعدامهم. وقد صُدِم المصريّون من هول مشهد الإعدام الذي بثَّه التنظيم، حيث ظهر الضحايا وهم يمشون على شاطئ البحر، ويرتدون ملابس برتقالية، وكلّ واحد منهم يمسك به إرهابي يُخفي وجهه، ثمّ أُجبروا على الجلوس على ركبهم، وقاموا بقطع رؤوسهم جميعاً في لحظةٍ واحدة!
أعلنت مصر الحداد 7 أيام. وبعد ساعات من بثّ مشهد القتل الجماعي، قام الجيش المصري بتوجيه ضربة جويّة مركّزة إلى معسكرات التنظيم في درنة، حيث قُتل 40 إرهابياً، واحترقت مخازن الأسلحة والذخيرة، وتهدّمت منشآت يتمركز فيها التنظيم ويُجري تدريباته.
في عام 2021 أنتجت السينما المصرية فيلماً بعنوان “السرب”، يعرض تلك الأحداث، وتفاصيل الردّ الجوّي المصري على معاقل التنظيم في ليبيا.
2019.. أبو بكر البغدادي في ليبيا
بعد توجيه الضربة الجوّية المصريّة إلى داعش ليبيا، بناءً على طلب السلطات الليبية، راحت قوى خارجية تزيد من دعمها للتنظيم والتنظيمات الأخرى، فتضاعفت أعداد المرتزقة والإرهابيين. وحسب تقديرات مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية عام 2016، فقد وصل عدد الإرهابيين في تنظيم داعش إلى أكثر من خمسة آلاف شخص، وهو ضعف التقديرات السابقة. وحسب تصريحات لقيادات في الناتو، فإنّ الحلف ناقش إمكانية التدخّل الدولي في ليبيا، خشية تمدّد التنظيم وخطره على أوروبا.
تواصلت بعد ذلك إمدادات داعش بالمال والسلاح والأفراد. وفي عام 2019 نشرت مجلّة “جون أفريك” تقريراً عن وجود “أبو بكر البغدادي” في ليبيا، وأنّ السلطات التونسية قد تلقّت معلومات من التحالف الدولي ضدّ داعش بهذا الصدد.
كان آخر وجود معروف للبغدادي في محافظة دير الزور السورية، وقد تزايدت الروايات التي تؤكّد مقتله هناك، لكنّ الاعتقاد بوجوده في ليبيا قد أعطى سنداً معنوياً قويّاً للخلايا الإرهابية في ليبيا وإفريقيا. وقد امتدّت عمليّات داعش في تلك الأثناء وبعدها، من الساحل الأطلسي غرباً إلى المحيط الهندي شرقاً.
عام 2022 .. خطر الجنوب
ما أشبه الليلة بالبارحة. في عام 2014 أعلن تنظيم داعش خلافته الوهميّة في سوريا والعراق، ثمّ تلا ذلك تأسيس تنظيم داعش ليبيا. وفي عام 2022 تكرّرت محاولات داعش للعودة إلى سوريا والعراق، حيث دارت معارك تستهدف فتح السجون وإعادة الحياة إلى التنظيم، وعلى الفور شرعت خلايا داعش في ليبيا تفتح معركة في الجنوب، حيث قتل عدد من أفراد كتيبة ليبية، فذهب الجيش الوطني الليبي إلى هناك، وقد أدّى تعاون الأهالي في المنطقة إلى نجاح عمليات الجيش التي استغرقت 44 ساعة.
كان هجوم “القطرون” في ليبيا متزامناً مع هجوم سجن “الحسكة” في سوريا، وكان وراءهما مَن يريد أن يشهد العالم العربي والإسلامي موجةً إرهابية جديدة، أكثر ترويعاً وأوسع مساحة.
إنّ ليبيا الدولة الغنيّة بالإنسان والنفط، يريد لها البعض أن تكون أفغانستان جديدة، حيث “لا نهاية” لرحلة الدم. وما لا تدركه أوروبا أنّ انهيار الجنوب الليبي سيكون ضاغطاً على الجنوب الأوروبي، وأنّ حشود الهجرة غير الشرعيّة التي تنتظر وراء ليبيا هي أضعاف ما يمكن أن يأتي من حرب أوكرانيا. لأنّ الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من ليبيا لا تحتاج إلى أكثر من ساعات قليلة في البحر.
إقرأ أيضاً: حين عرض الإخوان على الخميني أن يكون خليفةً للمسلمين؟
تحتاج النخبة الأوروبية إلى أن تستيقظ، وأن تدرك أنّ العالم العربي وأوروبا في سفينة واحدة، لا يمكن لنصفها أن ينجو من دون النصف الآخر.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.