ماذا يفعل الأمين العامّ لـ”كتائب بابليون – الحشد الشعبي” في بيروت؟
في أواخر الشهر الماضي، زار لبنان ريان سالم صادق الشهير بـ”الكلداني”، وهو الأمين العام لـ”كتائب بابليون” الكلدانية العراقية. وهي اللواء رقم 50 في “الحشد الشعبي” العراقي. وهو يقود 3 آلاف مقاتل مسيحي تحت راية إيران في العراق، ليعطيها طابع “التنوّع”.
وقد التقى رئيس الجمهورية ميشال عون والبطريرك الماروني بشارة الراعي، بالإضافة الى رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وكانت “المشرقية” هي العنوان الأهمّ في اللقاء مع الأخير، وهي الشعار المبهرج لـ”تحالف الأقليّات” ضدّ السُنّة في المنطقة.
في أواخر الشهر الماضي، زار لبنان ريان سالم صادق الشهير بـ”الكلداني”، وهو الأمين العام لـ”كتائب بابليون” الكلدانية العراقية. وهي اللواء رقم 50 في “الحشد الشعبي” العراقي
الكلداني اسمه مدرج على لوائح الإرهاب، والصادرة بحقّه عقوبات من وزارة الخزانة الأميركية بسبب ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبالتحديد ضدّ السُنّة. وهو يفاخر بعلاقاته السابقة مع قائد فيلق القدس فقي الحرس الثوري الإيران الجنرال الراحل قاسم سليماني، وبالحرس الثوري الإيراني عموماً.
استفادت “كتائب بابليون” من الأصوات الشيعية للحصول على خمسة مقاعد في البرلمان العراقي الذي اُنتُخب أخيراً، ولديها وزيرة في الحكومة العراقية، هي وزيرة الهجرة والمهجّرين التي كانت في عداد الوفد المرافق له إلى لبنان.
فلماذا استقبل البطريرك شخصيّة ميليشياوية متّهمة بالإرهاب، ومنبوذة من الكنيسة الكلدانية في العراق؟ تلك التي سبق أن أصدرت بياناً تبرّأ من كتائب بابليون وأمينها العامّ. ولماذا يناقض الراعي مبدأ الحياد الذي يتبنّاه ويعمل على تسويقه محليّاً ودوليّاً؟ وهل مارست جهات سياسية لبنانية ضغوطاً أو وساطاتٍ لاستقباله؟
ملفّ الأقلّيّات في الشرق الأوسط هو من الملفّات الساخنة والملتهبة، فلا يكاد الحديث عنه يهدأ قليلاً حتى يعود من جديد بحلّة أخرى وأنماط مبتكرة.
وإذا كان الأكراد هم الأقليّة المشرقية الأكثر شهرة على الصعيد العالمي، إلّا أنّها ليست الوحيدة، فهناك أقلّيات أخرى يُعمَل منذ سنوات على استنهاضها، عبر سرديّات تاريخية يتمّ اقتطاعها من سياقها، وتكثيفها وإعادة ضخّها بشكل مزخرف، لإثارة عصبيّات مدفونة، وتهيئة الأرضيّة لترسيخ حضور هذه الأقليّات في الخريطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة.
هاجس الديموغرافيا
يقول المؤرخ اللبناني المسيحي الدكتور نبيل خليفة في مقابلة متلفزة إنّ “هاجس إسرائيل الأكبر هو النموّ الديموغرافي للمسلمين السنّة”، وأنّه بالنسبة إليها أكثر خطراً من إيران وأذرعها الميليشياوية المنتشرة في المنطقة.
لأجل ذلك يتمّ العمل على تفتيت الكيانات الوطنية، وخلق كيانات صغيرة عضوية، ذات نقاء عنصري أو إثني، إمّا كدول مستقلّة أو عبر الفدرلة والإدارات الذاتية. والهدف هو إغراق العرب والسنّة في بحر من الأقليّات، وتحويلهم إلى أكثريّة مُقسّمة إلى قطع متباعدة، ومحاصرتهم بمجموعة من الكيانات الأقلّويّة التي تشكّل عوائق طبيعية تمنع وصالها مرّة أخرى إلى الأبد. بما يخدم إسرائيل الكيان العنصري الأوّل والأكبر في المنطقة.
ابتدأ الأمر مطلع القرن الحالي بالتسويق لمظلوميّة الأقليّات، التي كانت منسيّة من قبل، عبر مراكز الدراسات والأبحاث الغربية ذات التأثير في مراكز القرار. كانت البداية من الشيعة، الذين صدرت كتب وأبحاث تتحدّث عن مظلوميّتهم، مثل كتاب الباحث غراهام فولر “المسلمون المنسيون: الشيعة العرب”. وفولر كان نائباً لرئيس الاستخبارات الأميركية في منتصف الثمانينيّات، وهو باحث متخصّص في الشؤون الإسلامية. وكان له رأي غريب بعض الشيء أثناء مقابلة عبر تقنية “الزوم” مع موقع “الميادين نت” في تشرين الأول الماضي، حيث قال إنّ “أميركا أرادت لسنوات التخلّص من عائلة الأسد لأنّها دافعت عن القومية العربية والنضال ضدّ إسرائيل!”.
الكلداني اسمه مدرج على لوائح الإرهاب، والصادرة بحقّه عقوبات من وزارة الخزانة الأميركية بسبب ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبالتحديد ضدّ السُنّة
كلمة السرّ “داعش”
بعد ظهور تنظيم داعش وانفلاشه في الأراضي السورية والعراقية، والمجازر التي نفّذها بحقّ المدنيين من كلّ الأديان والأعراق، قامت الولايات المتحدة الأميركية بتشكيل تحالف دولي للقضاء عليه. هذا التحالف جمع تحت لوائه كتلة لامتناهية من التناقضات التي يصْعُب هضمها.
منح شعار “محاربة داعش” المشروعيّة الدولية لميليشيات عنصرية وطائفية دمويّة، فظهر الحشد الشعبي في العراق، الذي يجمع تحت جناحه عدداً كبيراً من الميليشيات ذات الولاء الإيراني الصافي. ومن المفارقة أنّ بين هذه الميليشيات واحدة مسيحية كلدانية هي “كتائب بابليون”.
إلى الحشد الشعبي برزت قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، بزعامة مظلوم عبدي. كان من المثير حقّاً أن يحارب قاسم سليماني كتفاً إلى كتف مع مظلوم عبدي بصحبة قادة من الجيش الأميركي، وبحماية وتغطية الطائرات الأميركية وباقي قوى التحالف “الإمبريالي”، في مواجهة داعش.
روج آفا
روج آفا – كردستان الغربيّة هو الاسم الأوّل للإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا. وهي تشمل أقساماً كبيرة من ثلاث محافظات، الحسكة ودير الزور والرقّة، بالإضافة إلى بعض مناطق حلب. وتُعتبر قوات سوريا الديموقراطية “قسد” ذراعها العسكرية التي تحظى بدعم دولي استثنائي. وهي تتألّف من عدّة فصائل عربية وكردية، لكنّ العمود الفقري فيها هم الكرد، وصاحب الكلمة العليا هو مظلوم عبدي. إذ تتألّف “قسد” من حوالي 100 ألف مقاتل، حسب الإحصاءات، ثلثاهم من وحدات حماية الشعب وشقيقتها وحدات حماية المرأة الكرديّتيْن، إضافة إلى أنّ الأمن الداخلي في مناطق الإدارة الذاتية هو من مسؤولية وحدات “الأسايش” الكردية.
شكّل الدعم الدولي الاستثنائي، الذي يُعتبر موجّهاً في الأساس ضدّ تركيا ورئيسها رجب طيب إردوغان، ستارةً مكّنت “قسد” من ممارسة نهج استبدادي وقمعيّ ضد العرب بالدرجة الأولى، وضدّ الكرد أيضاً. وتواجه “قسد” اتّهامات باغتيال عدد من زعماء العشائر العربية، وخطف الشباب والنساء عرباً وكرداً لتجنيدهم غصباً عنهم. هذا بالإضافة إلى ممارسة سياسات تغيير ديموغرافي ممنهج من أجل استبدال هويّة المدن والبلدات العربية في شرقي الفرات كي تصبح كردية خالصة.
من جانبها، غضّت الدول الكبرى النظر عن تقارير “هيومن رايتس ووتش” و”مراسلون بلا حدود”، وجميع المنظّمات الإنسانية والإعلامية، عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها وحدات مظلوم عبدي ضدّ العرب. بل الأدهى أنّها فتحت أمام “قسد” أبواب القصور والمقرّات الحكومية الأوروبية والأميركية. فعلى سبيل المثال استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عدّة مرّات ممثّلين عن “قسد”، آخرها كانت منذ أشهر، ولم ينبس ببنت شفة عن اضطهاد العرب والأكراد الرافضين لقسد!
الأقلّيّات المسيحيّة في سوريا
بيد أنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، فمظلوم عبدي الذي يبدو أنّ لديه مَن يمدّه بالخطط والأفكار، يتبع سياسات خبيثة لضمان تأييد الرأي العام العالمي له بالذات. فمنذ تأسيس “قسد” عمد إلى إدخال الأقليّات المسيحية، من سريان وآشوريين وكلدان وأرمن، إلى هذا الجسم الجامع لكلّ الأعراق، وإن كان شكليّاً، فالمهمّ هو الصورة أمام الرأي العام الدولي. هذا ولا يتجاوز تعداد المقاتلين السريان 3 آلاف من أصل 100 ألف.
بعد ذلك انطلقت حملات مريبة المصادر والأهداف على وسائل التواصل الاجتماعي لإحياء الإرث السرياني، إنّما بطريقة عدائية جدّاً مع المسلمين العرب، حيث تمّ اعتبارهم غزاة وسفّاحين، أمّا اليهود فهم من المكوّنات الأصيلة في المنطقة! ووصل الحال إلى تشبيه القائد الإسلامي خالد بن الوليد بقادة داعش.
ولمزيد من الترويج الإعلامي، من المفترض أن تحمل الانتخابات من أجل عضويّة المجلس التنفيذي للإدارة المشتركة، بعد أشهر قليلة، مسيحيّاً إلى رئاسته، بحسب المعلومات الواردة في بعض التقارير الإعلامية. ومع أنّ المجلس صلاحيّاته شكليّة ونظرية، إلا أنّ اختيار مسيحيّ سرياني للرئاسة يفيد في تسويق صورة مزيّفة لعبدي تظهره حامياً للأقليّات المسيحية، بما يدغدغ وسائل الإعلام الدولية. وربّما يتطوّر الأمر إلى دفع الأقليّات المسيحية السورية إلى المطالبة بكيان ذاتي خاصّ بها وحدها استناداً إلى الإرث المسيحي العريق في سوريا.
إقليم جنوب سوريا الدرزيّ
في السياق نفسه، ثمّة سيناريوهات تُطرَح وأخبار يتمّ تداولها عن توجّه الدروز في سوريا إلى نوع من الحكم الذاتي، ولا سيّما بعد الضغوطات الشديدة التي قام بها نظام الأسد، والسياسات القمعية التي انتهجها الأمن في الأشهر الماضية في السويداء ومناطق جبل حوران جنوب سوريا، والتي ربّما تكون متعمَّدة لدفع الدروز نحو هذا الخيار. فنظام الأسد ويناسبه تماماً مثل هذه الطروحات، بل تحميه وتضمن بقاءه نظاماً ضمن باقة أنظمة الأقلّيات.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان: لبنان بلا لبنانيّين؟
الجدير بالذكر أنّ الحكم الذاتي للدروز لا يُطرَح للمرّة الأولى، فقد سبق أن طُرِحت فكرة إقليم جنوب سوريا في الأعوام السابقة، وهي فكرة مماثلة للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وتشمل محافظات درعا والسويداء والقنيطرة. وقد حظي هذا الخيار بدعم أميركي وبريطاني وأردني وإسرائيلي أيضاً، نظراً إلى كونه أحد العوائق الطبيعية التي تحدّثنا عنها، لكنّه اصطدم برفض شعبي واسع وقتذاك. والأرجحأنّ الرفض الشعبي العام سيحول دون قدرة أصحاب هذه ابأفكار على تنفيذ مخططهم.
من المفترض أن تكون التجارب مدرسة للاعتبار والاتّعاظ من أجل تجنّب تكرار الأخطاء، وتحديداً الأخطاء الاستراتيجية. وهنا يرتسم السؤال الكبير: هل تعلّم أرباب حلف الأقلّيات في لبنان الدروس القاسية التي دفع لبنان ثمنها غالياً بسبب هذه المغامرات أم أحلام العصافير ما زالت تراود الرؤوس الكبيرة؟