ما هو الفارق الجوهري في أسلوب ممارسة النفوذ والقوّة من جانب الكرملين برئاسة فلاديمير بوتين، وبين البيت الأبيض برئاسة جو بايدن؟
ما هو مفهوم السياسة الخارجية وأساليب إدارة الصراع حاليّاً لدى كلّ من بوتين وبايدن؟
باختصار شديد، بايدن ينسحب وبوتين يواجه.
باختصار، بايدن يترك فراغات استراتيجية فيما بوتين يملأ هذه الفراغات.
باختصار، بايدن ينسحب عسكريّاً وبوتين يتدخّل عسكريّاً.
تعالوا نتأمّل ماذا حدث أخيراً!
أين انسحب بايدن؟
الإجابة المباشرة: من أفغانستان والعراق وسوريا والسعودية.
وأين تدخّل بوتين عسكريّاً؟
تدخّل عسكرياً في سوريا بعدما أطلق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إنذاره الفارغ بأنّ استخدام النظام للسلاح الكيمياوي في سوريا ضدّ المدنيين هو خطّ أحمر أميركي. وبعدما وقع المحظور، واستخدام الأسد الكيمياوي بالفعل، لم تقتل واشنطن ذبابة.
وتدخّل بوتين عسكرياً في إقليم “القرم” لأنّ روسيا تؤمن حتى الآن بأنّه تابع سياسياً وتاريخياً لنفوذ الكرملين.
وتدخّل بوتين في ليبيا عبر منظّمة “فاغنر”، وهي منظّمة من المرتزقة المقاتلين ذوي القدرات القتالية العالية تتبع بشكل مباشر للاستخبارات الروسية، وتقوم بتنفيذ عمليات عسكرية وأمنيّة يصعب على الجيش النظامي الروسي القيام بها بشكل مباشر.
وتدخّل بوتين أخيراً في كازاخستان لحماية النظام الحليف له من ثورة شعبية بسبب ارتفاع الأسعار، كان من الممكن أن تنقلب وتؤدّي إلى إسقاط النظام الحليف.
يدخل بوتين، وينسحب بايدن، أو يعيد التموضع، كما يحبّ أن يسمّي سياسته هذه.
شعبيّة بوتين الداخلية مستقرّة على الرغم من مشاكل كورونا واليد الثقيلة المعارضة، فيما شعبية بايدن في انخفاض مستمرّ اعتراضاً على:
1- أسلوب معالجة جائحة كورونا.
2- ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية بنسبة 6 في المئة.
3- ارتفاع معدّل البطالة مرّة أخرى.
4- شعور بعض القطاعات “بالمهانة الوطنية” عقب أسلوب الخروج المرتبك والمهين من كابول.
ما هو الفارق الجوهري في أسلوب ممارسة النفوذ والقوّة من جانب الكرملين برئاسة فلاديمير بوتين، وبين البيت الأبيض برئاسة جو بايدن؟
وتتوقّع المصادر الجديّة في مراكز البحث في واشنطن خسارة تاريخية للحزب الديموقراطي الحاكم في الانتخابات التشريعية المقبلة.
وتوضع علامة استفهام كبرى على صحّة بايدن وعلى قدراته العقليّة في إدارة الملفّات الصعبة نظراً إلى تقدّم سنّه وضعف حالته الصحية.
بالمقابل نرى بوتين بكامل عافيته وهو يمارس الجودو والسباحة والتزحلق على الجليد وعزف البيانو وكتابة الشعر.
يرأس الرجلان دولتين تعانيان، على الرغم من كونهما قوّتين عظميين، ضغوط عالم اقتصادي مأزوم ومرتبك كلّفته فاتورة كورونا ثمناً باهظاً.
يكمن الاختلاف الأول في المرحلة العمريّة، فبايدن من مواليد تشرين الثاني 1942، فيما بوتين من مواليد تشرين الأول 1952.
بالنسبة إلى الأسرة، بايدن ابن لعائلة متوسّطة من ديلاوير، فيما بوتين من طبقة حصلت على امتياز العلاقة الجيدة بالنظام الأمني الشيوعي، فحازت امتيازات حكومية.
قُدّرت رسميّاً الثروة الشخصية لبايدن عام 2019 بـ9 ملايين دولار، فيما لا يوجد تقرير رسمي عن ثروة بوتين، لكن يُعتبر الرجل، حسب التقارير الأمنيّة الغربية، “واحداً من أغنى حكّام العالم من جرّاء مبالغ مصدرها سمسرة وعمولات”.
بالنسبة إلى الثقافة السياسية، فإنّ بايدن تلميذ مخلص لتيار الوسط بالحزب الديموقراطي ومن الذين يؤمنون بأنّ “إنقاذ البلاد يتمّ عن طريق العودة إلى أفكار ومبادئ الآباء المؤسّسين”. أمّا أفكار ومبادئ بوتين فهي نابعة من المدارس السياسية للحزب الشيوعي السوفياتي، ومدرسة الأمن العسكري بالجيش الروسي الأحمر، وهو حاصل على دورات عليا في السياسة الدولية والقانون والأمن.
بالنسبة إلى المهنة، فإنّ تراكم خبرات بايدن يعود إلى تبوّئه المناصب الآتية: نائب في المجلس التشريعي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، ونائب الرئيس الأميركي باراك أوباما لمدّة 8 سنوات.
أمّا بوتين فقد وصل إلى رتبة عقيد في الاستخبارات الروسية، وشارك في عدّة حروب هي: الحرب الشيشانية الثانية، حرب أوسيتيا عام 2008، والتدخّل العسكري في سوريا، وحرب القرم، والتدخّل العسكري الأخير في كازاخستان.
نحن نتحدّث عن دولتين في حالة تناقض في الزعامة والكيمياء البشرية، والمصالح والتحالفات الدولية والإقليمية.
في الشعبيّة الداخلية يمسك بوتين الحكم بدقّة ويديره بيد من حديد عبر نظام أمني يفرض قيوداً مخيفة على المعارضة.
بالنسبة إلى بايدن يقود الرجل نظاماً فيه 75 مليون صوت معارض من أنصار الحزب الجمهوري، وفيه مؤشّرات تقول إنّ 58 في المئة من المواطنين لا يؤيّدون إعادة ترشيح بايدن نفسه. وتقول الإحصاءات إنّ 54 في المئة من المواطنين الذين شملهم البحث يرون أنّ أحوالهم الاقتصادية والماليّة ساءت منذ تولّي إدارة بايدن للحكم.
تظلّل علامات استفهام كبرى مستقبل بايدن وبوتين السياسي في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
في روسيا نظام أمنيّ صارم يمكن أن يتحكّم به بوتين كما يريد، وفي الولايات المتحدة نظام مفتوح يقرّر فيه الناخب المباشر اسم الرئيس المقبل.
العلاقة بين الرجلين على المستوى الشخصي “ليست ودّيّة”، فالعقليّتان والثقافتان والمزاج الشخصي والتركيبة النفسية في حالة تصادم وتناقض.
في لقاء جنيف، أظهرت خمس ساعات ونصف ساعة من الحوار وجهاً لوجه أنّ “الكيمياء البشرية بين بوتين وبايدن لا تعمل جيّداً”.
التقى الرجلان ساعتين على انفراد ليس بينهما سوى مترجمين، وحضرا معاً اجتماعاً موسّعاً مشتركاً مع المساعدين استمرّ 3 ساعات ونصف ساعة.
أهمّ ما نتج عن هذا اللقاء هو موافقة بايدن على قيام بلاده بتمديد معاهدة “ستارت 3” لمدّة خمس سنوات جديدة.
بايدن يرى بوتين “قاتلاً ديكتاتوراً يقود إمبراطورية شرّ”، فيما بوتين يرى بايدن رجلاً متقدّماً في السنّ تجاوزه الزمن، يمثّل بلداً تغرُب قوّته وانفراده السابق في قيادة العالم.
حلفاء بايدن هم بريطانيا وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وحلفاء بوتين هم الصين، أعضاء اتفاق الأمن الجماعي، ومجموعة شنغهاي.
بايدن يصارع لكي لا تفقد واشنطن مقعد رئاسة مجلس إدارة العالم، وبوتين يتحرّك غير عابئ بنفوذ واشنطن المتداعي وردود فعلها.
يدرك الجميع أنّ عالماً جديداً تجري صياغته الآن بالنفوذ والتسويات والمال والدماء والصواريخ والغزو السيبراني والتموضع الاستراتيجي الجديد، وسوف تكون الصين شريكاً أساسيّاً في تقسيم كعكة العالم.
لذلك كلّه يخطئ مَن يظنّ مِن قادة المنطقة أنّنا ما زلنا في عالم تقود الولايات المتحدة مقاديره.
ومخطئ مَن يعتقد أنّ واشنطن وحدها هي القادرة على حسم الحرب والسلام في المنطقة أو إنهاء الصراعات أو إنجاز التسويات.
إنّه عالم في حالة من السيولة يتشكّل الآن في شكل جديد ويتفاعل بانتظار اتفاق جديد على موازين مستقرّة للقوى لا أحد يستطيع أن يتنبّأ حتى الآن بشكلها النهائي.
الأمر المؤكّد أنّه عالم فقدت فيه واشنطن انفرادها السابق بحسم الأمور.
إقرأ أيضاً: “أساس” ينشر محضر لقاء بايدن – بوتين: الاستقرار الاستراتيجي
في ظلّ هذه السيولة وحالة عدم التيقّن التي ستستمرّ حتى تتمّ إعادة تشكيل النفوذ الدولي، تنكمش الحركة الأميركية دولياً، وتنكفئ على ذاتها في الداخل، وتركّز جهودها على تعطيل النفوذين الصيني والروسي.
في الوقت ذاته يتحرّك الروس بقوّة عسكرياً على الأرض من سوريا إلى ليبيا ومن أوكرانيا إلى كازاخستان.