آتياً من قمّة حلف “النّاتو” في بروكسِل، ومُتسلّحاً بتفويضٍ من حلفائه للتّحدّث باسمهم ورسم الخطوط الحمراء أمام الرئيس الروسي، وَصَلَ الرّئيس الأميركي جو بايدن إلى عاصمة الحياد العالميّ، العاصمة السّويسريّة جنيف، للاجتماع بنظيره اللّدود فلاديمير بوتين، في لقاء تاريخيّ وفي أسوأ توقيت للعلاقات بين البلدين منذ الحرب الباردة.
لم يغفل الرّئيس الأميركي، الذي وَصَف نظيره الرّوسي في وقتٍ سابقٍ بأنّه “قاتل”، مكرّراً العبارة قبل اللقاء، عن تقديم هدايا لبوتين تحمل رسائلَ سيّاسيّة واضحة. إذ قدّم بايدن لبوتين رسالتين على شكل هدايا تذكاريّة: الأولى نظّارات شمسية مخصّصة للطيّارين، من طراز “Aviator”، صنعتها شركة “Randolph us”، وزوَّدت بها الجيش الأميركي وشركاءه في حلف النّاتو.
وتأتي هديّة النّظارات بُعيدَ قمّة “النّاتو” في العاصمة البلجيكيّة، التي حضرها بايدن، وأعاد فيها تأكيد التزام بلاده بالتحالف العسكريّ، وحثَّ الحلفاء الغربيّين على الانحياز أكثر ضدّ روسيا والصين.
استحوَذ موضوع الهجمات الإلكترونيّة على الحيّز الأكبر من اللقاء، وكان كلّ طرفٍ يحاول ردع الآخر قبل أن يتّفقا على بدءِ محادثات عن الأمن السّيبرانيّ والاستقرار الاستراتيجي بين الولايات المُتّحدة وروسيا
أمّا الهديّة الثّانية فكانت تمثالاً من الكريستال للثّور الأميركي، من صنع شركة “Steuben Glass”، يرمز للقوّة والوحدة والمرونة.
في ظلّ رمزيّة الهديّتيْن، جلسَ الزّعيمان في داخل مكتبة قصر “Villa la Grange” التّاريخي، يتوسّطهما مجسّمٌ للكرة الأرضيّة، ومن خلفهما بعضٌ من الـ15 ألف كتابٍ التي تحتويها المكتبة، وبدأ اللقاء الذي استمرّ لـ3 ساعات و21 دقيقة.
مصادر أميركيّة موثوقة كشفت لـ”أساس” بعض تفاصيل اللقاء من أحاديث واتّهاماتٍ بين الطّرفين.
الأمن السّيبرانيّ
جَلَسَ بايدن إلى يمين نظيره اللّدود، الذي تتّهمه واشنطن بالوقوف خلف هجمات سيبرانيّة كبرى طالت عدداً من المؤسّسات الأميركيّة الحيويّة قبل أشهر، وكان يستعرِضُ قوّة بلاده السّيبرانيّة وقدرتها على شلّ المؤسّسات الرّوسيّة، وأنّ الأجهزة الأميركيّة المعنيّة لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تعرّضت لهجومٍ سيبرانيّ جديد، بل إنّ الردّ سيفوق التوقّعات.
بدوره، ذكَر بوتين لبايدن أنّ بلاده تعرّضت لهجمات مماثلة ومحاولات قرصنة مصدرها الأراضي الأميركيّة.
تحت طائلة التهديد بالرّدّ، كان التّأكيد الأميركيّ أنّ واشنطن لا تُريد حرباً باردة جديدة مع موسكو.
استحوَذ موضوع الهجمات الإلكترونيّة على الحيّز الأكبر من اللقاء، وكان كلّ طرفٍ يحاول ردع الآخر قبل أن يتّفقا على بدءِ محادثات عن الأمن السّيبرانيّ والاستقرار الاستراتيجي بين الولايات المُتّحدة وروسيا.
حقوق الإنسان
صارَ من المُسلّم به أنّ إدارة جو بايدن تولي ملفّات “حقوق الإنسان” أولويّة قصوى، حالها حال أيّ إدارة ديموقراطيّة في أميركا. وقد قال بايدن لبوتين: “إنّ حقوق الإنسان ستكون دائماً على طاولة البحث. لا يتعلّق الأمر بالتربّص لروسيا حين تنتهك حقوق الإنسان، إنّما يتعلّق بنا وبهويّتنا”، مُستنكراً ما سمّاه قمع السّلطات الرّوسيّة للمتظاهرين المُعارضين.
بدوره، استدرَكَ بوتين موجِّهاً الاتّهام ذاته إلى بايدن، مُستشهداً بحادثة اقتحام مبنى الكابيتول من قبل مناصري الرّئيس السّابق دونالد ترامب بعد الانتخابات الرّئاسيّة. فردَّ بايدن على بوتين: “لا يُمكنك أن تُشبّه عملاً إجراميّاً، كاقتحام مبنى الكابيتول، بتظاهراتٍ سلميّة تُطالب بحريّة التّعبير. هناك فارقٌ كبير”.
وعلى الرّغم من الخلاف على ملفّ حقوق الإنسان، اتّفقَ الجانبان على إعادة السّفيرين الأميركي والرّوسي إلى مركزي عملهما. وكان السفيران قد سُحِبا إثر التّوتّر الذي أصاب العلاقة بُعيْد وصول بايدن إلى السّلطة.
في إطار الوضع الإنسانيّ أيضاً، قال الرّئيس الأميركي للقيصر الرّوسي إنّ استمرار المشاكل مع النظام السوري سببه انتهاكه المُستمرّ للقوانين الدولية وإنّه لا يمكن الوثوق ببشّار الأسد
سوريا: الملفّ الإنسانيّ أوّلاً
على الرّغم من “زحمة الملفّات” في اللقاء بين زعيميْ الدّولتين الأقوى في العالم، تناول الطّرفان لدقائق الملف السّوري. هذا التناول، وإن كان بسيطاً، فإنّه يعني أنّ سوريا عادت إلى دائرة الاهتمام الأميركيّ، على الأقلّ بما يخدم السّياسة الأميركيّة. وقد ركّز الرّئيس بايدن على المُساعدات الإنسانية، مُتّهماً روسيا بالمسؤوليّة عن تفاقم الوضع الإنساني، وذلك بعدما عرقلت عمل الآليّة الدولية، وإصرارها على دخول المساعدات عبر النظام السوريّ.
وفي إطار الوضع الإنسانيّ أيضاً، قال الرّئيس الأميركي للقيصر الرّوسي إنّ “استمرار المشاكل مع النظام السوري سببه انتهاكه المُستمرّ للقوانين الدولية”، وإنّه “لا يمكن الوثوق ببشّار الأسد”.
واتّفق الجانبان على استئناف الحوار الأميركي – الرّوسي في العاصمة النّمساويّة فيينا، حيث سيستكمل الأميركيّون والرّوس حديثهما عن سوريا، الذي سيتركّز على:
1 – توفير الأرضيّة المُناسبة لتمديد العمل بالقرار الدوليّ الخاص بإرسال المُساعدات “عبر الحدود” وليسَ عبر دمشق، والذي تنتهي مفاعليه في 11 تمّوز المقبل.
2 – دفع النّظام السّوريّ للإجابة عن أسئلة كانت طرحتها “منظّمة حظر السلاح الكيمياوي”، في مقابل استعادة النّظام السّوري لـ”امتيازاته” في المنظمة.
3 – تطوير ترتيبات منع التّصادم العسكريّ في شرق الفرات، وتفعيل قنوات الاتصال العسكريّ، على أن تضغط موسكو على الأسد، وواشنطن على قوّات سوريا الدّيموقراطيّة، من أجل التفاهم على الترتيبات السياسيّة في وقتٍ لاحق.
الاستقرار الاستراتيجيّ
عنوان مُحادثات فيينا المُقبلة بين الطّرفين هو “الاستقرار الاستراتيجي”. وفي هذا الإطار، أكّد الرئيسان التزامهما بمبدأ أن “لا رابح” في الحرب النّوويّة، ولا ينبغي إشعالها. وأكّدا أيضاً أنّ التمديد الأخير لمعاهدة “ستارت” (START) للحدّ من انتشار الأسلحة النووية هو شهادة على التزام البلدين بالحدّ من هذه الأسلحة.
إقرأ أيضاً: قمّة بايدن – بوتين: سوريا على الطاولة.. ماذا عن لبنان؟ (2/2)
في فيينا، سيتوسّع بحث الملفّات، من أوكرانيا وصولاً إلى سوريا ومروراً بأوروبا، التي أثبت فيها بايدن أنّ الكلمة العُليا لا تزال لواشنطن بعد مُشاركته في قمّة G7 وقمّة “النّاتو” في بروكسيل، ووصوله إلى جنيف مُفوّضاً من الحلفاء تحذير بوتين من تجاوز الخطوط الحمراء.
بانتظار بلورة ما سينتج عن قمّة الزّعيمين النّوويّين في فيينا، تنتظر عواصم العالم ما سيؤول إليه اتفاق “الاستقرار الاستراتيجي” بينهما… وإلى حين التّوصّل إليه، سيجمع كلّ فريقٍ أوراقه الضّاغطة التي سترفع منسوب التّوتّر من شرق أوكرانيا إلى شرق المتوسّط…