قلت مراراً وفي كلّ مناسبة، وأنا مؤمن بما أقول. إنّ الزميل قاسم يوسف لا يكتب بقلم، بل يكتب بسكّين. يرسم كلماته في مقالاته، كما يرسم الثوار شعاراتهم على جدران المدن والساحات والقصور. يمسك بعباراته بثقة ليرميها كما كان يفعل أطفال الحجارة في فلسطين وهم يواجهون أكثر الجيوش تطوّراً في العالم، وأعني هنا جيش الاحتلال الإسرائيلي.
عندما وصلتني مقالة الزميل يوسف التي نُشرت في موقع “أساس” بتاريخ 7 كانون الثاني 2022 تحت عنوان: “الحريريّة في عزّ ارتباكها؟”، فوجئت وارتبكت وبدأت أبحث بين تلك الكلمات والجُمل عن تلك السكّين. نصّ العزيز قاسم في المقالة التي بين يدي مكتوب كالعادة بأسلوبه الراقي، وبعبارات مصوغة، وهي ميزته، استناداً إلى أصوله الكتابيّة المتّصلة بنمط شاعرٍ أزهريٍ من تلامذة كبيرنا الراحل المفتي الشيخ خليل الميس. بحثت وبحثت من دون جدوى عن تلك السكّين. تساءلت مستغرباً: هل أعادها قاسم إلى غمدها أم رماها بعد كلّ تلك السنين؟
لا يمكن للرئيس سعد الحريري أن يقدّم أيّة تسهيلات لبيئته وشارعه في هذه المرحلة، سوى الانسحاب والانكفاء تحت شعار واحد لا غير: “لقد أخطأت”
في هذه المقالة وجدته يكتب من دون أن يجرح. ويعبّر بكثير من المراعاة والرهبة في مقاربة واقعنا الحزين.
داهمني الصمت برهةً، وخيّل إليّ أنّه للمرّة الأولى يستيقظ الزميل قاسم يوسف من نومه ليرتدي ثيابه ويستقلّ سيارته متوجّهاً إلى أقرب مكتبة في قريته البقاعية الجميلة “المرج” ليشتري قلم “بيك”.
ثلاث نقاط ألتقي بها مع الزميل قاسم يوسف، وهي:
1- عدم استواء المقارنة بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأي أحد آخر خاصة نجله سعد.
2- الرئيس سعد الحريري بحسب الوقائع المعلنة غير مؤهّل للإمساك بإمبراطورية هائلة سقاها رفيق الحريري من ماء عينيه.
3- الرئيس سعد الحريري غير قادر على خوض لعبة سياسية شديدة الوطأة والقسوة والتعقيد.
مقابل النقاط الثلاث التي أوافق زميلنا العزيز، توجد ثلاث نقاط أخرى أجدني أخالفه الرأي فيها، وهي:
1- تقديم الرئيس الحريري كلّ التسهيلات التي قد تساهم في إنتاج المشهد السنّيّ على أبواب الانتخابات النيابية المقبلة.
2- أن نحفظ للحريريّة السياسية ومؤسّساتها ما كانته على الدوام.
3- أن نلتفّ جميعاً حول نوّاف سلام وندعوه إلى إدارة مرحلة انتقالية من خلال الانتخابات النيابية.
لا يمكن للرئيس سعد الحريري أن يقدّم أيّة تسهيلات لبيئته وشارعه في هذه المرحلة، سوى الانسحاب والانكفاء تحت شعار واحد لا غير: “لقد أخطأت”. أمّا الحديث عن الحريرية السياسية ومؤسّساتها فهو حديث بائد مع تحطّم الخرزة الزرقاء التي قالوا عنها أنّها ستحمي الليرة وتحفظ الأمن وتوفّر الكهرباء و900 ألف وظيفة، وتكون حصناً لكلّ المواطنين.
الحريرية السياسية أقفلت أبوابها مع إقفال أبواب مستوصفات الرئيس الحريري وتلفزيون المستقبل وتقزيم إذاعة الشرق ومقرّات التيار على امتداد مساحة الوطن. أمّا ما هو باقٍ في عروقنا وضمائرنا فهي الحريرية الوطنية التي ظلمها وقمعها وتآمر عليها الجميع، وفي مقدَّمهم الحريرية السياسية، ولعلّ أبرز وجوهها الأخيرة تلك التسوية التي أوصلتنا إلى هذا العهد والزمن اللئيم.
أما في ما يتعلّق باقتراح الالتفاف حول نواف سلام، مع كلّ الاحترام لشخصه الكريم وبعيداً عن إطلالته الإعلامية الأخيرة غير الموفقة، فإنّه بمنزلة نقل سجناء أو معتقلين من سجن إلى آخر. فيما المطلوب هو خروجنا إلى الفضاء الواسع الجميل.
إقرأ أيضاً: الحريريّة في عزّ ارتباكها؟
… قاسم يوسف أيّها الحبيب. لا تكون صناعة المستقبل بالرهان على الماضي، بل بفتح الآفاق على وسعها، ولندع العشب الأخضر ينبت في سهول مجتمعاتنا وبيئتنا كما يشاء وعلى الصورة التي يشاء. قد لا يحمل ثمراً اليوم، وقد يحمله. لكن من المؤكّد أنّه سيكون مؤشّراً إلى الآتي من الأيام، إلى عودة الحياة، وإلى إمكانية أن تُنبت هذه الأرض ثماراً وخيراً وتفتح دروباً جديدة لطائفة المساكين والتائهين والمتردّدين والمخدَّرين.
ليترشّح من يشاء، ولينتخب أهلنا من يريدون. قد يخطئون هذه المرّة، وربّما يضيعون كما هم اليوم ضائعون. لكن من المؤكّد أنّهم بذلك يمارسون حقّهم بارتكاب الأخطاء، وأيضاً حقّهم بتصحيحها كما يفعل الراشدون.