أنبياءُ اللبنانيّين… آلهة وشياطين

مدة القراءة 5 د

جاءت متأخّرة كارمن شمّاس إلى حارة الأنبياء والآلهة. كما لو أنّها وصلت حديثاً إلى لبنان، أو أنّ هناك من كذب عليها وأخبرها أنّ اللبنانيين شعبٌ يحتاج إلى أنبياء، أو إلى آلهة. ربّما إلى معجزة، لكن ليس إلى إله جديد. فالغرفة “كومبليه”.

حتى تاريخ كتابة هذه السطور، كان الشكّ يتملّكني في أنّ كارمن تلعب معنا لعبة “الكاميرا الخفيّة”. لعلّها تمزح معنا. أو تريد أن توصل رسالة ستفصح عنها لاحقاً.

هذا بلدٌ يمكن أن يصنع نبيّاً، معلّماً، نائباً لله، في سنوات قليلة، وعلى جثث بعض الفقراء. مجزرة تكفي لصنع نصف إله. وهذا بلدٌ يمكن أن تجد فيه حزباً يقول إنّه حزب السماء، وقواتٍ تقول مهمّتها حماية الروح القدس، وتيّاراً يقول إنّه سيخلّص البشر من الفاسدين

فمنذ أسابيع انتشرت فيديوهات لها مع رجل تبدو عليه ملامح السذاجة، وتقتصر قدرته اللغوية على قول جمل مثل: “بدنا نتعاون مع بعض وما نكذّب بعض”، في استجداء للمشاهدين كي يصدّقوا ادّعاءاته. وأعلنت كارمن أنّ “الحكيم نشأت مجد النور هو نبيّ”، جديد. فيما هو جلس إلى جانبها وراح يهزّ برأسه ويقول: “إله الشمس صديقي، يزورني كلّ يوم”. ثمّ يدعونا إلى “احترام قوانين المرّيخ في المريّخ، وقوانين الزهرة في كوكب الزهرة، وقوانين نبتون في نبتون”.

لا يبدو نشأت غريباً. هو فقط أقلّ ذكاءً من غيره. فهذه الأرض ولّادة الأنبياء. ومنطقتنا مهد الديانات السماوية الثلاث. ولبنان قد يكون من أكثر المساحات ضيقاً (10 آلاف كيلومتر) واكتظاظاً بالطوائف والمذاهب، حول العالم. إذ يندر أن نجد شعباً أو بلداً أو مجموعةً بشريةً أنتجت في السنوات الـ100 الأخيرة هذا الكمّ الكبير من أنصاف الآلهة، سياسيين وفنّانين ورجال دين…

يكفي أن تركب كارمن بسيّارتها، أو أن تجلس على بساط الريح، أو على عصا نبيّها الجديد، أو أن تركب غيمة، وتتوجّه في رحلة بين شوارع بيروت، لترى كيف أنّه “لولا الهاء… لكنتَ نبيّاً”. أو يكفي أن تشهد جماهير المعمّم الكبير، المسحورة بكلماته، وهي تصدّق أنّه يجب أن ترسل شبابها إلى الموت في قارّة أخرى، من أجل الوصول إلى الجنّة. أو أن تشاهد فيديو الرجل الساذج، وهو يقول للجنرال: “أنتَ المسيح، أنت العدرا، أنت الإنجيل، أنت القربان”. وبالطبع لا ننسى من يصدّقون أنّ “الخرزة الزرقا بتحمي لبنان”.

في لبنان المغنّي، ولو كان صوته عصيّاً على الآذان، يظنّ نفسه إلهاً. هنا أحدهم يدخل إلى المرابع الليلية مُحاطاً بعشرة حرّاس بطول مترين وعرض مترٍ من العضلات، وهناك عارضة أزياء تظنّ أنّها وريثة صباح، وهناك ممثّل أبله يظنّ نفسهُ شاعراً على تويتر ونصف إله من آلهة الجمال.

هذا بلدٌ يمكن أن يصنع نبيّاً، معلّماً، نائباً لله، في سنوات قليلة، وعلى جثث بعض الفقراء. مجزرة تكفي لصنع نصف إله. وهذا بلدٌ يمكن أن تجد فيه حزباً يقول إنّه حزب السماء، وقواتٍ تقول مهمّتها حماية الروح القدس، وتيّاراً يقول إنّه سيخلّص البشر من الفاسدين، بالانضمام إلى جيش السارقين.

على الأقلّ نبيّ كارمن لا يدعو إلى القتل، كما تفعل آلهة اللبنانيين الكثيرة والعنيفة. وهو، على سذاجته وتفاهته، يبدو نبيّاً، أمام شياطين السياسة والدين في لبنان.

“كان يجيني رؤيا كتير.. عم طير وملايكة ونور وهالحكي”، يقول النبيّ الجديد. هو الذي قضى 5 سنوات في ميتم: “على الرغم من أنّ لي أهلاً”. وفي سنّ الـ14: “تأكّدتُ أنّ الأرض مش إلي… وكنتُ في كوكب الزهرة، وجئتُ إلى هنا في مهمّة”. ويخلص إلى أنّ الحلّ “بالتوقّف عن أكل الحيوانات.. هذا خطأ بالنسبة إلى الله.. لأنّ العصافير لتزيين السماء، والبقر لطرد الأرواح الشرّيرة”.

ليس ضروريّاً الإشارة إلى أنّ هذا الرجل كان يعمل ضابط إيقاع، على الطبلة، في أحد مطاعم بيروت. هذا لا يمنعه من أن يتصدّى للنبوّة. والطبلة أصلاً لا تأكل لحوم الحيوانات.

وكارمن التي درست علم الفلك في الجامعة الأميركية وتخرّجت في 1986، دعتنا إلى الإيمان بـ”الحكيم نشأت مجد النور”، وأعلنت بنفسها نبوّته: “لو كنتم ترون لرأيتم النور فوق لبنان منذ أسبوعين، ولشعرتم بقوّة بالنور الإلهي. ولو تأمّلتم قليلاً لعرفتم أنّكم الآن أكثر أماناً تحت جناح النور الساطع”.

بالطبع صارت “ترند” على بعض مواقع التواصل، وسخر كثيرون منها. هي التي سطع نجمها في “عالم الصباح” بتلفزيون المستقبل منذ 1999. والسخرية ليست لأنّهم لن يصدّقوا أنّ نشأت صديق لإله الشمس، وإنّه جاء من كوكب الزهرة في مهمّة. منهم من يصدّق أنّ جبران باسيل سينقذنا من الفاسدين. ومنهم من يصدّق قول سمير جعجع إنّه، فور نيله الأكثرية المسيحية في مجلس النواب، سينخفض سعر صرف الدولار فوراً. ومنهم من يصدّق أنّ حزب الله سيحرّر 300 ألف رهينة يعملون في الخليج، ويعيدهم إلى جنّة حيّ السلّم. ومنهم من يصدّق أنّ حزب الكتائب هو رأس حربة المجتمع المدني.

إقرأ أيضاً: عن الحوار: بين أسياد البلد… وعبيده

يبدو نشأت مجد النور “ساذجاً” لأنّه يكذب حيث لا ينفع الكذب. يريدنا أن نتوقّف عن أكل اللحوم، وأن نحترم قوانين كوكب المرّيخ. لا مانع. حين أزور المرّيخ، أعده بأن أحترم قوانينه. المشكلة، كلّ المشكلة، أنّ نشأت غبي. والغباء لا يشكّل اعتداءً على أحد. نحن اللبنانيّين نؤمن بما هو أسوأ ممّا تدعونا إليه كارمن.

الطريف أنّ استيراد اللحوم تراجع 40% في لبنان العام الفائت بسبب الفقر في لبنان. يمكن القول إذاً إنّ كارمن تواسي اللبنانيين، بدل أن تطلب منهم “ترف” التحوّل إلى نباتيين. تقول لنا في حديث لـ”النهار” إنّ “الكرة الأرضيّة دخلت في المجهول منذ 2020، مع كورونا، وهي فاتورة غضب أرواح الحيوان والطبيعة على الأرض، بسبب اغتصاب لحم الحيوان”.

الأكيد أنّ كارمن أخطأت في العنوان. هذه دعوة كانت لتجد مريدين في بلاد تعاني من جفاف روحيّ، أو من غياب للدين والتديّن. فلا أحد يبيع “المايّة”، في “حارة السقّايين”.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…