في 14 شباط 2005، اغتيل رفيق الحريري بأكثر من طنٍّ ونصف طنّ من المتفجّرات، وبأطنانٍ لا تعدّ ولا تحصى من الحقد والكراهية. ومعه اغتيل لبنان دولةً ونظاماً وقيماً. لكنّ هذا الاغتيال لم يحدث دفعة واحدة، إنّما بالتدرّج على دفعات، في السنوات اللاحقة، عبر العديد من الأشكال. وانتهى الأمر بانهيار البلد سياسياً واقتصادياً ونقدياً واجتماعياً وأخلاقياً، ولم يبقَ إلا إعلان وفاته رسمياً، وهو أمر ليس ببعيد.
نُقدّم في هذا المقال 16 صورة، تختزل مسيرة لبنان منذ اغتيال الحريري “الدولة” حتى يومنا هذا. محطّات قليل منها كان مضيئاً وباعثاً للأمل، وأكثرها كان يعبّد طريق الجمهورية نحو “الهاوية”.
1- 14 آذار 2005
ثورة الأرز التي استمدّت وهجها من الجمهور العريض الذي آمن بها، والتي حَظيت باحتضانٍ عربي، ودعمٍ دولي، كانت فعليّاً لحظة من خارج السياق الذي فُرِضَ على لبنان من قبل مَن قرَّر نحر الدولة. ثمّ عادت وتكرّرت مرّة أخرى بعد سنوات، وقبل وقوع الانهيار، ووقف في وجهها هم أنفسهم الذين وقفوا في وجه 14 آذار وعملوا على تفكيكها وبعثرة قواها واستمالة أطرافها. إذ لم يمضِ الكثير من الوقت حتى بدأ عقْد قوى 14 آذار بالانفراط كحبّات السبحة، الواحدة تلو الأخرى، بفعل فاعل، ونتيجة النهْم السلطوي الذي أغشى بصيرة البعض، فكان ما كان.
2- إتّفاق مار مخايل 2006
سدّد هذا الاتّفاق طعنة نجلاء إلى قلب 14 آذار وروحها وأحلامها الكبيرة، إذ مزّق صفّها، ونقل شطراً واسعاً من الشارع المسيحي إلى ضفّة حزب الله، مع انتقال التيار الوطني الحر إلى فريق 8 آذار، ومنحه تغطية مسيحية لسلاح حزب الله وأدواره كان بأمسّ الحاجة إليها، مُناقضاً كلّ الأفكار التي ناضل من أجلها لعقد ونصف عقد من الزمن.
3- 7 أيّار 2008
حوَّل حزب الله وجهة سلاحه، من مقاومة إسرائيل إلى الداخل، مُستخدماً إيّاه “عبرة” لكلّ القوى السياسية كي تذعن لمشيئته.
اُجتاح الحزب وميليشياته الحليفة، من حركة أمل والحزب القومي السوري، شوارع بيروت، واجتاح الحزب وحيداً بعض مناطق الجبل، وأُزْهَق الأرواح البريئة لترهيب السُنّة والدروز، وأُحرِق تلفزيون المستقبل لِما يمثّل من رمزيةٍ في وجدان جمهور رفيق الحريري. تلك الغزوة أفضت إلى اتّفاق الاستسلام في الدوحة، الذي منح حزب الله حقّ النقض “الفيتو” في النظام عبر الثلث المعطِّل، وأنهى فعليّاً مفاعيل ثورة الأرز.
إثر تلك المحطة كان التفكّك الثاني في قوى 14 آذار، إذ أعلن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط خروجه منها وإعادة تموضعه سياسياً في آب 2009، علماً أنّه كان قوة الدفع الأقوى فيها، ولا سيّما في اللحظات الأولى التي أعقبت اغتيال الحريري عام 2005.
4- 12 كانون الثاني 2011
الجائزة التي حصل عليها حزب الله وحلفاؤه في اتّفاق الدوحة، والمتمثّلة بالثلث المعطِّل، استخدمها لمرّة واحدة وأخيرة أيضاً، لتنفيذ انقلاب سياسي على حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، التي كانت تشكّلت إثر انتصار غير متوقّع لقوى 14 آذار في الانتخابات النيابية عام 2009، بفعل التصويت الانتقامي للناس ردّاً على غزوة 7 أيار.
حينها استخدم الحزب ذريعة شهود الزور في قضية اغتيال الحريري للانقلاب على نجله، ناشراً قمصانه السود ذات صباح في بيروت لمنع إعادة تكليفه مرّة جديدة، ولتكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة حزب الله الأولى. ولم يعُدْ بعدها من داعٍ لاستخدام الثلث المعطِّل، فالحكومة جلّها رهن يمينه، وتمّ طيّ صفحة شهود الزور إلى الأبد.
5- اغتيال عقل 14 آذار وحضنها الحامي 2012-2013
جميع الاغتيالات أو محاولات الاغتيال التي شهدها لبنان، ما بعد اغتيال الحريري، استهدفت قامات فكرية وسياسية لعبت دوراً كبيراً في مسيرة 14 آذار. إلّا أنّ اغتيال رئيس شعبة المعلومات اللواء وسام الحسن في تشرين الأول 2012، والوزير محمد شطح في كانون الأوّل 2013، شكّلا ضربة قاسمة لفريق 14 آذار. فـ”الوسام” كان بمثابة “الحضن الحامي” لشخصيات هذا الفريق ورموزه، ولكلّ واحد معه منهم قصّة وحكاية. أما شطح فكان العقل الإبداعي لهذا الفريق ونبع أفكار لا ينضب. وباغتيالهما فقدت 14 آذار اتّزانها.
6- ربط النزاع على شفير الفراغ الرئاسي 2014
بعد سلسلة تفجيرات انتحارية استهدفت حزب الله وشارعه، وجولات قتال في طرابلس، سقطت حكومة الرئيس ميقاتي الثانية، وخلفتها حكومة “المصلحة الوطنية” برئاسة تمام سلام. وهي كانت أولى ثمار سياسة “ربط النزاع” التي اعتمدها الرئيس سعد الحريري مع حزب الله، وأعلن عنهها بنفسه. خطوةٌ كان الهدف منها إيقاف الحرب المذهبية الباردة بين السُنّة والشيعة، لكنّها أيضاً مهّدت الطريق نحو تسوياتٍ مؤلمة.
7- محاولة إنتاج الأمل عام 2014
بعد أشهر قليلة على اغتيال الوزير والمفكّر محمد شطح، وفي ظلّ الفراغ الرئاسي الطويل لدولة بدأت شمسها بالأفول، أطلق الفنّان أحمد قعبور أغنية “تنين تنين” التي كانت آخر إنتاجات تلفزيون المستقبل، ودخل بعدها في موت سريري. كانت الأغنية محاولةً لبثّ الأمل وسط بحر من اليأس الذي بدأ يُرخي بثِقْله على الناس، وجمع الفيديو كليب الترويجي لها فريق تلفزيون المستقبل، في لحظة ستبقى للتاريخ لأنّها لن تعود. وكانت تحاول القول إنّ “الدنيا تنين تنين”، وإنّ لبنان يجب أن يكون بلحمة كلّ قواه السياسية.
8- حوار عين التينة 2014-2017
ربط النزاع تطوّر فيما بعد إلى حوار مباشر، بين تيار المستقبل وحزب الله، برعاية الرئيس نبيه برّي في عين التينة. كان الحوار يهدف إلى تخفيف الاحتقان المذهبي، وإبقاء لبنان بمنأى عن الحرائق المشتعلة في المنطقة، بالإضافة الى عناوين أخرى: انتخاب رئيس للجمهورية وإقرار قانون انتخابي جديد.
41 هو عدد جلسات هذا الحوار الذي استمرّ حتّى تموز 2017. وقد نجح في تحييد لبنان عن الحريق السوري، لكنّه فشل في محاولات إخراج السلاح من بيروت، وإبعاد سرايا حزب الله عن الشارع السنّي.
9- 2016 عام التسويات القاتلة
إتّفاق معراب، والتسوية الرئاسية: عمليّاً هاتان التسويتان أعلنتا نهاية 14 آذار سياسياً، مع انتقال القوات والمستقبل إلى تأييد مرشّح 8 آذار لرئاسة الجمهورية. لم يبقَ في 14 آذار سوى المستقلّين الذين دفعوا ثمن استقلاليّتهم وتمسّكهم بخياراتهم.
كانت التسوية الرئاسية هي المسمار الأخير في نعش الجمهورية الثانية، مهما كانت المبرّرات والظروف التي أدّت إليها. اُنتُخِبَ عون رئيساً للجمهورية، وانطلق العدّ العكسي لعاصفة الانهيار التي كانت تقترب.
10- الحقد في صورة 2018
بعد انتصار حزب الله في انتخابات 2018، وحصوله على الأغلبية النيابية، لم يجد بعض جمهوره مكاناً أنسب للاحتفال بهذا “النصر المبين”، الذي باركه الحرس الثوري الإيراني على لسان قادته، سوى تمثال رفيق الحريري. كانت الرسالة واضحة، فمعركتهم الانتخابية لم تكن إلّا مع رفيق الحريري ونهجه وإرثه، ولو أُتيحَ لهم فلربّما احتفلوا بالانتصار على ضريح الحريري وليس في أيّ مكان آخر.
11- 17 تشرين 2019
أمل صغير لاح في نفق الانهيار الطويل: انتفاضة شعبية فاجأت السلطة بجميع مكوّناتها وأصابتها بالارتباك. ومثلما كان الحال في 14 آذار 2005، كانت انتفاضة حالمة، لكنّها نجحت في أمرين مهمّين: أنهت التسوية الرئاسية، وفتحت نافذة للتغيير في الاستحقاقات القادمة.
12- اعتداءات حزب الله 2019
بعدما هدّد الأمين العامّ لحزب الله المنتفضين في الساحات، وقال لهم إنّ الحكومة خطّ أحمر ولن تسقط، وطلب من جمهوره الانسحاب من الشوارع، اعتدت مجموعات من مناصريه على المتظاهرين في ساحة رياض الصلح في 25 تشرين الثاني 2019، رافعين شعار “شيعة، شيعة شيعة” الذي تحوّل إلى “فزّاعة” لتخويف المنتفضين في الأيام التالية، إذ كان يكفي أحياناً أن يأتي موكب لفرسان الدرّاجات النارية لإخافة المتظاهرين وبعثرتهم.
13- انفجار مرفأ بيروت: 4 آب 2020
انفجر قلب بيروت النابض، وحجر الأساس في بناء دولة لبنان الكبير، ناثراً الموت والخراب في العاصمة، وكأنّه مشهد النهاية للجمهورية ولدورها الوظيفي خلال المئة سنة الماضية.
انفجارٌ صُنّف واحداً من أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، دمّر نصف العاصمة، وأدّى إلى استشهاد أكثر من 200 شخص، وعشرات الجرحى والمشرّدين.
14- حكم للتاريخ من محكمة الحريري 2020
“تعلن غرفة الدرجة الأولى أنّ سليم عياش مذنبٌ بما لا يرقى إليه الشكّ بوصفه مشاركاً في تنفيذ القتل المتعمّد لرفيق الحريري”. هكذا أعلن القاضي ديفيد راي، رئيس المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري، عن هويّة “القاتل”، وهو عضو في حزب الله.
رغم صعوبة أو حتّى استحالة تنفيذه، إلّا أنّه يبقى حكماً للتاريخ. يستطيع حزب الله أن يُواري القاتل في مخابئ أو تحت التراب، لكنّه لن يستطيع الهرب من محكمة التاريخ.
15- مأزق حزب الله من خلدة إلى شويّا فالطيّونة
ثلاثة مشاهد متنوّعة طائفياً ومذهبياً، بين السنّة والدروز والمسيحيين، مؤدّاها واحد: نريد الخروج من إسار حزب الله. وعلى الرغم من كلّ الكلام عن التحريض والمؤامرات المزعومة، إلا أنّ مشهديْ خلدة وشويّا بالتّحديد كانا عيّنتين واضحتين على حقيقة الموقف الشعبي من حزب الله وسلاحه وأدواره الإقليمية. ثم كان مشهد الطيونة دليلاً على أنّ المسيحيين باتوا واضحين في عداوة الحزب وسلاحه.
16- هدْم تلفزيون المستقبل
تتكثّف الكثير من المعاني في صورة مبنى المستقبل المهدوم: أفول الحريرية السياسية، انهيار الإعلام البيروتي، ضرب ذاكرة بيروت الثقافية، غياب التلفزيون الذي كان يُعتبر “صوت السُنّة”، والذي احتلّ مكانة كبيرة في وجدانهم. حتى بعد تسريح موظّفيه، وتوقيف برامجه، بقيت الناس تتابع بثّ الإعادات لبرامج من الذاكرة الأرشيفية للمستقبل، وخاصّة في شهر رمضان المبارك.
لم يبقَ شيء. اغتيلت الدولة. هجرنا العرب ونبذنا الغرب. وها هم أعداء لبنان يحاولون القضاء على روح بيروت، وعلى مستشفياتها وجامعاتها ومدارسها وإعلامها. هرب الشباب والشيب، ومن استطاع إلى الهجرة سبيلا. ذهب كلّ شيء وبقي الجلاّدون فقط… ومعهم الكبتاغون.