حتّى القرن الرابع الميلادي، كانت غزّة مسيحية كلّها. اليوم لا يوجد في غزّة سوى ألف مسيحي فقط. فأين ذهب المسيحيون؟
يطرح هذا السؤال كتابٌ جديدٌ لكاتبة إيطالية تُدعى جانين جيوفاني. والسؤال لا ينحصر بغزّة فقط، لكنّه يشمل أيضاً كلّ الشرق الأوسط.
اتّخذت الكاتبة من هذه القضية عنواناً مثيراً لكتابها، وهو: “المندثرون”.
لا يقتصر الإرهاب على تدمير الكنائس وتهجير المسيحيين، لكنّه يشمل أيضاً تدمير جسور التسامح والمحبّة والعيش المشترك التي تقيمها دول تؤمن بالأخوّة الإنسانية وتعمل من أجلها
تقول جيوفاني إنّ كتابها هو نتيجة بحث ودراسة استمرّت عقدين من الزمن، وشملت دول الشرق الأوسط تحديداً، إضافة إلى مناطق عديدة أخرى في شمال إفريقيا والعالم. ففي الشرق الأوسط تقول الكاتبة إنّ عدد المسيحيين تقلّص إلى 7 في المئة فقط من عدد السكّان، وإنّ المسلمين يشكّلون الآن أكثريّة الـ 93 في المئة.
وبعيداً عن هذه المنطقة، ذكرت على سبيل المثال أنّ المسيحيين في كوريا الشمالية، الذين يُقدّر عددهم بعشرات الآلاف، يعيشون في معسكرات اعتقال مقفلة عليهم. وذكرت أيضاً مأساة مسيحيّي سريلانكا الذين تعرّضوا في ليلة الاحتفال بعيد الميلاد عام 2019 لعملية إرهابية أثناء قدّاس الميلاد، ذهب ضحيّتها 250 فرداً منهم. وارتكبت منظمة إرهابية تلك الجريمة الجماعية المنكرة باسم الإسلام.
وتُلفت المؤلّفة إلى أنّه على الرغم من أنّ المسيحية وُلِدت في الشرق، فإنّ المسلمين ينظرون بشكل عامّ إلى المسيحيين على أنّهم غرباء. وينظر بعضهم إليهم على أنّهم عملاء للغرب (وهذا ليس صحيحاً بالتأكيد). وتبني الكاتبة معلوماتها على مقابلات تقول إنّها أجرتها مع شخصيات متعدّدة، منهم رجال دين من المسلمين والمسيحيين.
وفي ضوء ما جمعته من معلومات، وصلت إلى استنتاج يقول إنّ المسيحية تواجه حالة اندثار في الشرق. ولذلك اتّخذت من هذه العبارة عنواناً لكتابها: “المندثرون”.
إغفال التضامن الإسلامي
تشير جيوفاني إلى أنّ بعض العائلات المسيحية مستمرّة على دينها منذ إشراقة المسيحية، إلا أنّها تجد نفسها اليوم مضطرّة إلى الهجرة بحثاً عن ملاذات آمنة خارج الشرق الأوسط. وتعزو ذلك إلى جرائم القتل وتدمير الأديرة والكنائس التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية. لكنّ المؤلّفة لا تذكر شيئاً عن الموقف الإسلامي الذي تصدّى لتلك الجرائم، وأدانها واعتبرها خارجة على الإسلام وعاصية له، مثل البيانات التي صدرت عن الأزهر الشريف في القاهرة، وعن مجلس حكماء المسلمين في أبو ظبي، وعن رابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرّمة، وكذلك عن منظمة آل البيت في الأردن وجمعيّة المقاصد الإسلامية في بيروت، وغيرها.
تقول جيوفاني إنّ كتابها هو نتيجة بحث ودراسة استمرّت عقدين من الزمن، وشملت دول الشرق الأوسط تحديداً، إضافة إلى مناطق عديدة أخرى في شمال إفريقيا والعالم
لقد غابت هذه المواقف الإسلامية الصادرة عن أعلى المراجع الشرعية عن كتاب السيّدة جيوفاني، على الرغم من أنّ كتابها صدر هذا العام. وسبق صدوره نشر البيانات والمبادرات الإسلامية التي فتحت الطريق أمام لقاء بابا الفاتيكان فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب لإصدار وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبو ظبي. فقد شكّلت تلك الوثيقة عنواناً لمرحلة جديدة من الأخوّة ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط، لكن بين الناس جميعاً. ولذلك سُمّيت بـ”الإنسانية”. حتى إنّها تُعتبر بداية لمرحلة جديدة في العلاقات بين أهل الأديان وبين الناس جميعاً.
لم تذكر المؤلّفة الإيطالية شيئاً عن تهجير ملايين المسلمين من سوريا والعراق تحديداً، ومن غيرهما من الدول التي تعرّض فيها المسيحيون للاضطهاد على أيدي الجماعات الإرهابية، نتيجة لتلك الأعمال التي شهدتها المنطقة وكانوا ضحية لها.
صحيح أنّ الإرهابيين دمّروا كنائس وأديرة، لكنّهم دمّروا أيضاً مساجد وبيوتاً يُذكر فيها اسم الله.
وصحيح أيضاً أنّه نتيجة للأعمال الإرهابية تعطّل الاقتصاد وارتفعت نسبة البطالة بين المسيحيين إلى 70 في المئة، كما تقول الكاتبة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ المسلمين أيضاً دفعوا ثمن ذلك بطالة مماثلة، وبنسبة أعلى.
تحدّثت الكاتبة عن تدمير ثمانين كنيسة على يد جبهة النصرة الإرهابية، لكنّها غفلت عن أمرين مهمّين:
– الأوّل هو قرار أبو ظبي بناء كنيسة تحمل اسم البابا فرنسيس.
– والثاني هو بناء الكنيسة القبطية (كاتدرائية) الجديدة في العاصمة المصرية، وافتتاحها بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وإمام الأزهر، إلى جانب بابا الأقباط تواضروس الثاني.
إقرأ أيضاً: المسيحيون بين مار مخايل والطيونة: الدولة.. أو الهجرة
ولعلّ زيارة البابا فرنسيس العراق، عزّزت الحضور المسيحي العراقي وأنعشت الآمال المسيحية في الشرق، وكانت الحدث الكبير الأكثر غياباً في الكتاب.
لا يقتصر الإرهاب على تدمير الكنائس وتهجير المسيحيين، لكنّه يشمل أيضاً تدمير جسور التسامح والمحبّة والعيش المشترك التي تقيمها دول تؤمن بالأخوّة الإنسانية وتعمل من أجلها.
والكاتبة ركّزت على المسيحيين، وأغفلت أنّ المسلمين هم ضحايا في هذا الشرق، مثل المسيحيين، وربما أكثر.