أوكرانيا: السياسة باتت خطراً على العالم

مدة القراءة 8 د

في صيف العام 1914 أطلق أحدهم النار على وليّ عهد النمسا وزوجته، فقُتِل عشرة ملايين إنسان. بضعُ رصاصاتٍ قَضَتْ على الزوجيْن، فقضت مليار ونصف مليار قذيفة على أوروبا.

لم يدرك ذلك الطالب الصربيّ ذو التسعة عشر عاماً أنّه يطلق الرصاصة الأولى في الحرب العظمى التي دخلت التاريخ باسم الحرب العالمية الأولى. وقد أصبحت تلك الرصاصة جرس إنذار دائم لِمَن يتصوّرون أنّهم يديرون التوتّر، ويضبطون الصراعات وفقَ حساباتٍ دقيقة، وإذا بالأمور تندفع بعيداً، وخارج زمام السيطرة.

يريد الروس اليوم التفاوض المباشر مع الأميركيين بخصوص الانتشار العسكري وشبه العسكري في المناطق الجديدة، في صيغة أقرب إلى تفاهمات تقسيم النفوذ السوفيتي الأميركي في أزمنة الحرب الباردة

أوكرانيا- سوريا – ليبيا

تبدو الأمور في الأزمة الأوكرانية قيدَ التحكّم، فثمّة قمّة أميركية – روسية قد انعقدت، وثمّة قمم أميركية – أوروبية تتواصل، وتبدو الأمور سائرة وفق القواعد المعتادة للعبة الشطرنج. لكنّ ذلك لا يمنع قلق كثيرين من “شبح الطالب الصربيّ”، وانهيار ما يبدو متماسكاً.

زاد من تلك التخوّفات تصريحات وزيرة الدفاع الألمانية السابقة “أنغريت كارينباور” بضرورة تهديد روسيا باستخدام السلاح النووي، وردّ الخارجية الروسية بأنّ على ألمانيا حماية نفسها من اختبار قدرات الجيش الروسي.

ليست عواصف أوكرانيا الجيوسياسية بعيدة عن العالم العربي، فالصراع الروسي الأميركي حاصلٌ في سوريا، ولبنان، وليبيا، والسودان، وهو حاصلٌ أيضاً في مناطق أخرى بدرجات متفاوتة، وستنعكس نتائج ما يجري في كييف على ما يجري في العالم العربي، من دمشق إلى طرابلس.

القواعد الروسية في سوريا، ومجموعة فاغنر في ليبيا، والقطع البحرية الروسية في شرق المتوسط، جعلت روسيا في مواجهة أميركا في ساحةٍ قديمةٍ، جرى بعثها من جديد. وما تعرضه موسكو على واشنطن اليوم ليس فقط إيجاد حلول دائمة في أوكرانيا، بل إيجاد حلول في مناطق التماس المتعدّدة بين القوّتين. وربّما تجد أطراف عربية نفسها جزءاً من مفاوضات وتسويات بين عاصمتين بعيدتين، تطرح كلٌّ منهما جدول أعمالها، من دون شراكة من أصحاب الجدول الأصليّين.

توجد “مجموعة فاغنر” الروسية العسكرية “غير الرسمية” في عشر دول إفريقية، وقد بدأت تحلّ محلّ فرنسا في مالي، وهي تحاول أن تشغل منطقة الساحل والصحراء الغنيّة والبائسة، وصولاً إلى ليبيا.

يريد الروس اليوم التفاوض المباشر مع الأميركيين بخصوص الانتشار العسكري وشبه العسكري في المناطق الجديدة، في صيغة أقرب إلى تفاهمات تقسيم النفوذ السوفيتي الأميركي في أزمنة الحرب الباردة.

ترفض أوكرانيا الأطروحة الروسية، وترى أنّها كانت دوماً دولة مستقلّة، وأنّ استقلالها الحديث عام 1991 هو استقلال نهائي. قبل عام 2014 كانت الحكومة الأوكرانية أقرب إلى موسكو، وفي ذلك العام جاءت حكومة أقرب إلى واشنطن، وهنا بدأ كل شيء

بداية القصّة الأوكرانيّة

الروابط التاريخية بين روسيا وأوكرانيا عديدة وعميقة، وكان الروس يُطلقون على أوكرانيا اسم “روسيا الصغرى”. وفي بعض الحقب التاريخية كانت العاصمة الأوكرانية كييف هي عاصمة روسيا، ومنها انتقلت المسيحية الأرثوذكسية إلى روسيا في القرن التاسع الميلادي.

في القرن التاسع عشر اتّحدت روسيا مع أوكرانيا، وفي القرن العشرين أسّست روسيا الاتحاد السوفيتي، وكانت أوكرانيا أبرز جمهوريّاته، وفي القرن الحادي والعشرين كتب الرئيس فلاديمير بوتين مقالاً جاء فيه: “إنّ الروس والأوكرانيّين شعب واحد، وإنّ ظهور جدارٍ بينهما في السنوات الأخيرة هو أمرٌ مأساويّ”.

ترفض أوكرانيا الأطروحة الروسية، وترى أنّها كانت دوماً دولة مستقلّة، وأنّ استقلالها الحديث عام 1991 هو استقلال نهائي. قبل عام 2014 كانت الحكومة الأوكرانية أقرب إلى موسكو، وفي ذلك العام جاءت حكومة أقرب إلى واشنطن، وهنا بدأ كل شيء.

قامت روسيا بضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، وبعد شهر واحد، أعلن الأوكرانيون الروس في شرق أوكرانيا الانفصال وتأسيس جمهورية “غير معترف بها” تُدعى “دونباس”. وفي عام 2021 حشد الجيش الروسي قرابة مئتي ألف جندي قرب حدود أوكرانيا، ويقول الإعلام الغربي إنّ الحشد العسكري الروسي يتزايد، وإنّ ما يجري هو إعداد للحرب.

غزو أوكرانيا وغزو دونباس

روسيا غاضبة من الولايات المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة غاضبة. أسباب الغضب الروسي: الاتجاه إلى ضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو، ثمّ تهديد الأمن القومي الروسي، إذ ستصبح أميركا على حدود روسيا. وكذلك المناورات المكثّفة للناتو في البحر الأسود، وتحليق قاذفتين استراتيجيّتين أميركيّتين يمكنهما حمل قنابل نووية، قرب حدود روسيا، فضلاً عن استعداد بريطانيا لإقامة قاعدتين عسكريّتين في أوكرانيا، واستعداد الناتو لإنشاء بنية عسكرية تحتيّة للعمل ضدّ روسيا. يُضاف إلى ذلك أنّ تركيا، العضو في حلف الناتو، زوّدت أوكرانيا بطائرات بدون طيّار للعمل في شرق أوكرانيا.

أمّا الغضب الأميركي فأسبابه قيام روسيا بضمّ القرم، ودعمها الانفصاليّين في شرق أوكرانيا، وعدم احترام موسكو رغبة أوكرانيا في اتّخاذ قرارها بشأن الانضمام أو عدم الانضمام إلى الناتو، بمفردها ومن دون أيّ “فيتو” روسي.

على هذا الأساس من الغضب اندلعت حرب إعلامية بين الجانبين. ما يُقال هنا هو نقيض ما يُقال هناك. وبينما تتحدّث أميركا عن احتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا، تتحدّث روسيا عن الغزو الأوكراني لشرق أوكرانيا. وبينما يتحدّث الأميركيون عن وقوع خسائر بشرية هائلة إذا حدث الغزو الروسي، يتحدّث الروس عن إبادة جماعية فيما لو حدث الغزو الأوكراني.

كلّ السيناريوهات تقود إلى تغييرات مهمّة في النظام العالمي. ففي حال لم تحصل روسيا على أيّ شيء، فإنّ ذلك سيمثّل استعادةً أميركيةً لجانب مهمّ من مكانتها، وفي حال حصلت روسيا على بعضٍ ممّا تريد، فإنّ الطريقة باتت معروفة

عام 2022 ليس عام 2014

ترى روسيا نفسها في وضع أفضل مقارنةً بالولايات المتحدة. فأميركا خرجت من أفغانستان، وتخرج من العراق، فيما توجد روسيا في سوريا وأوكرانيا وجورجيا وإفريقيا. لكنّ واشنطن تقول إنّ الأمر ليس كذلك. وحسب جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، فإنّ “أميركا سوف تستخدم أشياء في 2022 لم تستخدمها في عام 2014”.

يتحدّث الإعلام الأميركي عن حزمة عقوبات أميركية غير مسبوقة، من فرض عقوبات على بنوك روسيا الكبرى، واستهداف صندوق الثروة السيادي، ومنع تحويل الروبل إلى الدولار، وإخراج روسيا من نظام التحويلات المالي العالمي “سويفت”، فضلاً عن إلحاق خسائر فادحة بالغاز الروسي عبر إيقاف العمل في خط الغاز الروسي الأوروبي “السيل الشمالي”.

بدورها راحت روسيا تفكّر في مشروع قديم جديد، وهو التحالف الروسي الصيني لبناء “نظام ماليّ عالمي جديد”، يكون بديلاً للنظام المالي العالمي القائم، والخاضع للدولار الأميركي.

الأخطر منذ الحرب العالميّة الثانية

كلّ السيناريوهات تقود إلى تغييرات مهمّة في النظام العالمي. ففي حال لم تحصل روسيا على أيّ شيء، فإنّ ذلك سيمثّل استعادةً أميركيةً لجانب مهمّ من مكانتها، وفي حال حصلت روسيا على بعضٍ ممّا تريد، فإنّ الطريقة باتت معروفة: حشد عسكري كثيف، ثمّ مفاوضات تحت ضغط السلاح، ثمّ قمّة رئاسية، ثمّ بعض المزايا، ثمّ حشد عسكري جديد، وهكذا..

في حال نجاح روسيا والصين في خلق نظام ماليّ موازٍ للنظام المالي العالمي القائم على الدولار، فإنّ ذلك سيشكّل تغيراً جذريّاً في مستقبل القوّة في العالم. وفي حال قيام روسيا بغزو أوكرانيا، فإنّ الأمر سيكون، حسب تعبير قائد الجيش البريطاني، أخطر حدث في أوروبا منذ الحرب العالميّة الثانية.

إقرأ أيضاً: مستقبل البشر: بين العلماء الأشقياء والعلماء النبلاء

من المؤسف أنّ القوى الكبرى في العالم تختار زمن الوباء، بموجاته اللانهائية، والأزمة الاقتصادية غير المسبوقة منذ قرابة مئة عام، ومأساة المناخ الذي يتلاعب بقارات العالم من دون توقّف… من المؤسف اختيار ذلك التوقيت الدراميّ في تاريخ الإنسانية لإضافة المزيد من الأزمات السياسية.

يوماً بعد يوم يدرك العقلاء في هذا العالم أنّ كبار صنّاع القرار يدفعون كوكبنا المأزوم نحو المجهول. وفي قولةٍ واحدة: لقد باتت السياسة خطراً على الحضارة.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…