مستقبل البشر: بين العلماء الأشقياء والعلماء النبلاء

مدة القراءة 7 د

التفكير الجانبيّ

يشاهد الملايين مقاطع مصوّرة لأوروبيّين وأميركيّين يتشكّكون في وجود فيروس كورونا، ويهاجمون اللقاح. وفي العالم العربي يستند كثيرون إلى هؤلاء باعتبارهم “مصادر أجنبيّة”، فهذا عالِم فرنسي، وذاك طبيب بريطاني، وهذه محطة تلفزيونية ألمانية.

على أثر ذلك الهراء راح عدد كبير من الناس يدعون إلى رفض اللقاح، ومواجهة القوانين والسلطات، والعمل ضدّ الرؤية الرسمية للجائحة.

كان مذهلاً أن تنتشر هذه الأفكار غير العلميّة، التي تنتمي إلى “العلوم الزائفة”، في بلاد لها تاريخ مهمّ في سطوة العلم وسيادة العقل. ولقد اضطرّت السلطات في ألمانيا إلى تصنيف هؤلاء في خانةٍ جديدةٍ للتطرّف. فإلى التطرّف اليمينيّ واليساريّ والدينيّ، أُضيفت نظريّات المؤامرة التي تعمل ضدّ الدستور وسلطات الدولة، وصُنِّفت قوّة التطرّف الرابعة. وتنتمي حركات “التفكير الجانبي” إلى هؤلاء المتطرّفين الجدد.

نجح العلم في مكافحة الفقر والمرض، وقاد الإنسانية إلى حضارة غير مسبوقة، ولم تكن الحياة في أيّ لحظة في التاريخ متقدّمةً كما هي اليوم

شريحة إيلون ماسك

كان أبرز ما روّجه أنصار العلوم الزائفة ما أصبح يُعرَف باسم “شريحة بيل غيتس”، إذ يزعمون قيام مؤسسات بيل غيتس بوضع شريحة داخل اللقاح يمكنها مراقبة وملاحقة كلّ من يتلقّى اللقاح.

وقد اتّضح زيف هذه الادّعاءات، لكنّ المثير حقّاً أنّ شيئاً ما في حركة العلم المعاصر يدعو إلى القلق بالفعل، حيث يقود التطوّر في علوم البيولوجيا والتكنولوجيا الحيوية إلى مخاطر كبرى تهدّد طبيعة الإنسان ومستقبل الإنسانيّة.

كان أنصار نظريّات المؤامرة بشأن كورونا ولقاحها أشبه بِمَنْ ألقى قنبلة دخّان قامت بالتغطية على تجارب حقيقيّة تمثّل أخطاراً غير مسبوقة إذا ما انحرفت عن المسار. إنّ “شريحة إيلون ماسك” هي ما تستحقّ الانتباه، لا شريحة “بيل غيتس” المزيّفة.

الملياردير إيلون ماسك هو مؤسّس شركة “تسلا” و”سبيس إكس”، وتصل ثروته إلى ثلث تريليون دولار، وقد يصبح قريباً أوّل “تريليونير” في التاريخ.

شريحة إيلون ماسك هي شريحة رقيقة “ذات طبيعة علاجيّة” توضع في الدماغ، وتتّصل بألف خليّة عصبيّة عبر أسلاك حقيقية نانويّة. والهدف المعلن للشريحة هو معالجة أمراض دماغيّة، والوصول إلى علاج لمرض ألزهايمر.

تمّ إجراء تجارب بالفعل، ويبدو الحصول على نتائج بعيداً حتى الآن، لكن يخشى البعض أن يتحوّل الأمر من علاج ألزهايمر إلى تسريعه، ومن ضبط الخلايا العصبية إلى إرباكها.

جائزة نوبل للكيمياء 2020

في عام 2018 نجح طبيب صيني في القيام بتعديلات جينيّة، فتمّت ولادة أوّل طفلتين معدّلتيْن جينيّاً في ذلك العام. كانت تلك الواقعة بمنزلة صدمة، وقد أُحيل الطبيب إلى التحقيق، ووُصِف بـ”الطبيب المارق”. لكن لا أحد يعرف هل من أطباء مارقين آخرين، وهل تستمرّ محاولات ولادة أطفال معدّلين جينيّاً، وكيف سيكون المستقبل إذا تطوّرت هذه التجارب، وأُجرِيت على نطاق واسع.

في عام 2020، حصلت عالِمتان من فرنسا والولايات المتحدة على جائزة نوبل في الكيمياء. وفي تقديري أنّ هذه هي أخطر جائزة نوبل في العقود الأخيرة، ذلك أنّها مُنِحت بسبب ابتكارات “مروّعة” في حقل الهندسة الوراثية.

في عام 1953، كان اكتشاف الحمض النووي أكبر اكتشاف علمي في ذلك الوقت. وفي عام 2020، عُدَّ “المقصّ الجيني”، الذي بموجبه مُنِحت جائزة نوبل في الكيمياء، أكبر تطوّر منذ اكتشاف الحمض النووي قبل 67 عاماً.

يمكن لذلك المقصّ الجيني أن يحذف ويضيف داخل الحمض النووي للإنسان. وحسب العالمتيْن، فإنّ ذلك يهدف إلى الوصول إلى “كائن بشريّ أفضل”. وحسب حيثيّات جائزة نوبل، فإنّ ذلك يؤدّي إلى “إعادة صياغة قانون الحياة”.

الهدف المعلن لهذه الأبحاث هو القضاء على أمراض وراثية عديدة، وهو هدف نبيل وعظيم، لكن أيضاً ماذا لو انحرف المسار؟

مختبر الخلود

في عام 2021، أُسِّست شركة أميركية متخصّصة في مكافحة الشيخوخة باسم “ألتوس لابس”، اتّخذت من “وادي السيليكون” مقرّاً لها، واستقطبت علماء كباراً، من بينهم حائزون جائزة نوبل، وتزيد مرتّبات بعض العلماء على مليون دولار سنويّاً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف راتب الرئيس الأميركي.

قام الملياردير “جيف بيزوس” بدعم الشركة بأرقام كبيرة. والهدف الذي يسعى إليه “بيزوس” هو القضاء على الشيخوخة، باعتبارها مرضاً يمكن تفاديه أو الشفاء منه.

يسعى علماء في الشركة إلى زيادة متوسط عمر الإنسان إلى 150 سنة أو أكثر. ويعمل الباحثون على دراسة بيولوجيا الخلايا، وكيفيّة الوصول إلى الشيخوخة، ثمّ الهندسة العكسيّة لذلك، أي كيفيّة الرجوع إلى الشباب.

تمثّل هذه الأبحاث أعمالاً إنسانية مهمّة، لكنّ القلق لا يزال يكمن في احتمال انحراف المسار، ومدى إمكانية تطوير الهندسة العكسية لدى أناس، وتسريع ذبول الخلايا ووتيرة الشيخوخة لدى آخرين.

الأسلحة المستقلّة

يطلق البعض على الروبوتات والمركبات الذاتية القيادة، التي يمكنها خوض الحرب، اسم “الأسلحة المستقلّة”.

الروبوتات لا تمرض ولا تُصاب ولا عائلة لها. وقد أصبحت الطائرات بدون طيّار والدبّابات والغوّاصات ذاتيّة القيادة، وبات أولئك الجنود الآليّون مصدر خطر كبير على مستقبل الإنسان، ذلك أنّ القانون الدولي لا يمكنه محاكمة قِطَع من الحديد تقتل الناس وتصيب المدن والمنشآت، وفي حالات كثيرة من الصعب الحسم مَن وراء هذه الارتكابات.

سيكون مستقبل العالم مرهوناً بنتائج المباراة بين هذين الفريقين، العلماء النبلاء الذين يعملون من أجل حياة أفضل، والعلماء الأشقياء الذين يلهون بالمختبرات والجامعات، واضعين أنفسهم على سلّم الشهرة، ودافعين العالم إلى حافّة الهاوية

تُطوِّر هذه الأسلحة المستقلّة قدرات خاصّة في اتّخاذ القرار وفي تطبيقه، وقد تمضي في طريق غير ما أراده البشر الواقفون خلفها، وقد يسبق الذكاء الصناعي القرار البشري أو يستقلّ عنه. في الضفّة الأخرى من النهر تجري تجارب عديدة ليأخذ الإنسان البشري بعضاً من صفات الإنسان الآلي.

في عام 2014، ضحك الرئيس باراك أوباما وهو يقول: “نعم.. نحن نصنع الإنسان الحديدي”. وفي عام 2017، لم يضحك الرئيس فلاديمير بوتين وهو يقول: “إنّ البشريّة قد تنتج شيئاً أخطر من السلاح النووي، إنساناً له صفات معيّنة”.

في عام 2020، حاول باحثون فرنسيّون تطوير قدرات الجنود في الجيش الفرنسي، بحيث يمكنهم العمل في ظروف شبه آليّة، كالنوم القليل والطعام الأقلّ. وفي 2021، اتّهمت الولايات المتحدة الصين بمحاولة إنتاج “جنود مارقين” عبْر “تحرير الجينات”، وقد نفت الصين الاتّهامات الأميركية.

إقرأ أيضاً: “الملاك 2”: ماذا قال أبو الغيط والمحجوب عن أشرف مروان؟

أنْ يصبح العلم عدوّاً

 لقد نجح العلم في مكافحة الفقر والمرض، وقاد الإنسانية إلى حضارة غير مسبوقة، ولم تكن الحياة في أيّ لحظة في التاريخ متقدّمةً كما هي اليوم.

ولا يزال علماء عظماء يواصلون المسيرة لمواجهة التحدّيات الكبيرة لعالم اليوم. لكنّ في الجانب الآخر مَن يريد أن يغامر بالعلم ويقامر بالعالم، مَن يريد أن يحوّل المعرفة إلى قنبلة، ويحيل الفرص إلى مخاطر. وسيكون مستقبل العالم مرهوناً بنتائج المباراة بين هذين الفريقين، العلماء النبلاء الذين يعملون من أجل حياة أفضل، والعلماء الأشقياء الذين يلهون بالمختبرات والجامعات، واضعين أنفسهم على سلّم الشهرة، ودافعين العالم إلى حافّة الهاوية.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…