“الملاك 2”: ماذا قال أبو الغيط والمحجوب عن أشرف مروان؟

مدة القراءة 9 د

ملاك نتفليكس

تحدّث معي أحمد أشرف مروان كثيراً عن والده أشرف مروان، وعن جدّه الرئيس جمال عبد الناصر. التقيتُ أحمد للمرّة الأولى في صحبة الصديقين محمد مصطفى شردي والمهندس أحمد رضا حلواني، ثمّ التقيته لاحقاً مرّات عديدة، وفي كلّ مرّة كان دور الوالد فيما بين مصر وإسرائيل حاضراً ومتكرّراً.

لقد سمعت من والدته السيّدة منى عبد الناصر ما سمعته منه، وسمعت من خاله عبد الحكيم عبد الناصر ما لا يتّفق بالضرورة مع ما سمعته من أحمد ووالدته.

كان رأيي ولا يزال أنّ أشرف مروان بطل مصريّ من أبطال الخداع في حرب 1973، ولم يكن لعائلة مروان دورٌ في تكوين قناعتي، بل كانت لشخصيّات مهمّة ونافذة الدور الأكبر في تشكيل رأيي.


ولمّا طلب منّي أحمد أشرف مروان أن أتحدّث في فيلم وثائقي أوروبي عن والده، ولم أتردّد لحظة في الاستجابة، وقلت له بوضوح إنّ “موقفي لا علاقة له بصداقتي لعائلتك، وأنا لستُ مرتبكاً في هذا الصدد، فموقفي حاسم بشأن وطنيّة أشرف مروان”.

كان أشرف مروان زوجاً لابنة الرئيس جمال عبد الناصر، وسكرتيراً للرئيس السادات، ونسيباً للسيّد عمرو موسى، وكان قريباً من الرئيس حسني مبارك ومدير الاستخبارات المصرية اللواء عمر سليمان. وقد صدرت في حياة مروان كتب إسرائيلية تقول إنّه كان جاسوساً لإسرائيل، وإنّ الموساد نجح في تجنيده للعمل ضد مصر، وهي الكتب التي اعتمدها الفيلم الذي أنتجته شبكة “نتفليكس” بعنوان “الملاك”.

كان واضحاً أنّ جهاز الموساد يقف وراء ترويج روايته، كتاباً وفيلماً ومقالات وتعليقات، وكان ردّ الرئيس مبارك وقتها هو إقامة جنازة عسكرية لرجل الدولة المصري “أشرف مروان” مع كلمته الشهيرة بأنّ مروان قدّم خدمات جليلة لبلاده.

شهادة أحمد أبو الغيط

في خريف 2021، تحدّث الأمين العامّ لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، وأكّد على وطنيّة أشرف مروان، وزيْف الرواية الإسرائيليّة.

قال أبو الغيط إنّه التقى الرئيس مبارك في إحدى القرى السياحية صيف عام 2018، ثمّ روى: “كان في قرية سياحية وأنا موجود فيها، رحتُ له لابس شورت وجزمة كوتشي، الكلام جاب بعضه، مبارك قال لي: تعرف.. الرئيس السادات في حديثه معايا من سنين قال لي: أنا كنت بين الحين والآخر استخدم أشرف مروان في أن أوصل للجانب الإسرائيلي كلاماً يخدمنا”. وعلّق أبو الغيط: “يبقى كان بيستخدم من قبل الأجهزة المصرية لإمداد إسرائيل بمعلومات تخلّيهم غير قادرين على إحكام الموقف”.

ثمّ يواصل أبو الغيط: “في أثناء عملي وزيراً للخارجية، قال لي اللواء عبد السلام المحجوب، الوكيل الأول لجهاز الاستخبارات المصرية: أنا اللي مشغلّه، إديته معلومات ودرّبته، وكنت بقول له تعمل إيه ومتعملش إيه في اتصالاتك بيهم، لأنك ممكن تقابلهم في السفارة، أو في بيوتهم، فممكن تتقتل”.

تحتاج السينما المصرية إلى إنتاج فيلم بعنوان “الملاك 2” ردّاً على الفيلم الإسرائيلي. مهما طال الزمن لا بدّ من سيادة الحقيقة، فليس للقيم الوطنيّة تاريخ صلاحيّة، والأدوار الكبرى لا تسقط بالتقادم

زياراتي للّواء المحجوب

تعرَّفتُ على اللواء محمد عبد السلام المحجوب، الذي يلقّبه كثيرٌ من المصريّين باللواء “المحبوب”، قبل سنوات. وقد سعدتُ بزيارته في منزله أكثر من مرّة.. كنّا نتناول القهوة ونتناقش في شؤون بلادنا والعالم. وذات مرّة، وبينما كان يذهب الحديث شرق العالم وغربه.. جاءتْ كريمة اللواء المحجوب بهاتفه ليردّ على اتّصال طالت محاولاته. كان المتّصل على الجانب الآخر هو الأستاذ “أحمد أحمد الهوان” نجل أسطورة الاستخبارات المصرية “جمعة الشوان”.

قال لي الوزير عبد السلام المحجوب: لقد تحدّث “أحمد الهوان – جمعة الشوان” عنّي كثيراً.. وعن الدور الذي قمتُ به. وكنتُ أقول له: يا أحمد.. كفى كلاماً لا تتحدّث. ولكنّه كان لا يسمع الكلام، وكان يتحدّث عنّي باستمرار. ولا يزال ابنه أحمد يتّصل بي دوماً.. لقد كان والده بطلاً عظيماً.

وهكذا وجدتُ نفسي فجأة أمام الدراما الشهيرة التي قدّمها الفنان عادل إمام في رائعة “صالح مرسي”: “دموع في عيون وقحة”. وتوالتْ أمامي صورة “الريس زكريا” (الفنان صلاح قابيل أو اللواء المحجوب)، ومسرح العمليّات الممتدّ من اليونان إلى إسرائيل.

لقد روى “أحمد الهوان – جمعة الشوان” قصة تجنيده وعمله لمصلحة الاستخبارات المصرية على يد اللواء عبد السلام المحجوب على النحو التالي: “عندما تركتُ السويس، واتّجهتُ إلى أثينا بحثاً عن عمل، تقابلتُ مع الريس زكريا (الضابط المحجوب).. أخبرني أنَّه من محافظة دمياط ويبحث أيضاً عن عمل. قضيتُ الوقت في أثينا وأنا مُتعب جدّاً، ولمّا ضاقتْ بي الدنيا ذهبت إليه، وعرضتُ عليه شراء ساعتي كي آكل بثمنها. مضى بعض الوقت وأنا في حالة يأس شديد. وأثناء ذلك حاول الموساد تجنيدي. فقمتُ بالذهاب إلى الاستخبارات المصرية لإبلاغها. وهناك وجدت هذا الرجل من جديد. إنَّه الريس زكريّا. فوجئت أنّه ليس كما قال لي، وإنّما هو ضابط استخبارات مصري. أعادَ لي “الريس زكريا – عبد السلام المحجوب” الساعة التي اشتراها منّي، وأصبح من وقتها الضابط المسؤول عنّي”.

لقد كان “أحمد الهوان – جمعة الشوان” واحداً من الذين نجحوا على نحوٍ مدهشٍ في اختراق إسرائيل، وكان سبباً في الإطاحة بمسؤولين داخل الموساد، وكشف عملاء خارج إسرائيل.

ملوك الخداع

لا يتحدّث عبد السلام المحجوب عن أعماله بسهولة. وهو إذا ما تحدّث سرعان ما تجده ممتلكاً لفضيلة إنكار الذات وتقديم الآخرين. إنَّه يُشيد دوماً بدور “الفريق” ودور “الجهاز”، ودور “الضبّاط المتعاقبين” في العملية الواحدة. إنّه يتحدّث دوماً عن “البطولة الجماعيّة” لا “البطولة الفرديّة”. وهو سلوكٌ قويم لو باتَ سلوكاً عامّاً في بلادنا لكان لنا شأنٌ آخر.

في سياق هذه الفضائل، من السهل أن تسمع اللواء عبد السلام المحجوب يُشيد بأبطال عمليّة رأفت الهجّان، من اللواء “محمد نسيم” إلى اللواء “سامح سيف اليزل”. وكان اللواء سيف اليزل هو آخر مَن عمل في ملفّ “رفعت الجمال – رأفت الهجّان”. وحين يُسأل اللواء المحجوب عن رفض مصر منح الجنسيّة لأسرة الهجّان، يقول: غير صحيح. إنّ مصر لم تمانع في منحهم الجنسيّة المصرية، لكنّهم يعيشون في أوروبا ويحملون الجنسيّة الألمانية، ولا تسمح قوانين الجنسيّة الألمانية بالجمْع بين الجنسيّتيْن.

إنّ اللواء المحجوب شخصيّة قارئة، مثقّفة، واسعة الاطّلاع. وقد عرفت من أين جاء الأستاذ صالح مرسي بالسياق الرائع لدراما “رأفت الهجّان”، حين عرفت أنّ اللواء عبد السلام المحجوب كان أحد اثنين من ضبّاط الاستخبارات الذين جلسوا مع صالح مرسي وأعطوه المعلومات، وشرحوا له الصورة الكاملة.

هنا تحدَّث معي اللواء عبد السلام المحجوب عن أهمّيّة ذلك المسلسل وغيره من ركائز القوى الناعمة المصرية.. وروى لي أنّه كان في زيارة رسمية للجزائر، حيث التقى الرئيس الشاذلي بن جديد، فقال له هذا الأخير: إذا أردت أن تدخل أيّ منزل في الجزائر من دون أن يعترضك أحد أو يشعر بك أحد، افعل ذلك وقت عرض المسلسل المصري. إنّ كلّ الجزائريين يتركون كلّ المنزل فارغاً، ويتجمّعون في غرفة واحدة لمشاهدة المسلسل، ولا يعودون للحياة إلّا بعد نهاية الحلقة.

أكاذيب فيلم “الملاك”

سألتُ الوزير المحجوب عن قضيّة أشرف مروان، والفيلم الإسرائيلي “الملاك”. قال لي: “الفيلم ركيك ومرتبك. لقد أكَّد كذب رواية الموساد. إنّ أشرف مروان بطل مصري عظيم. ولم يكن يوماً عميلاً مزدوجاً. ولقد كانتْ الدولة واضحةً تماماً في جنازته المهيبة. كانت تلك رسالة حاسمة: إنّنا نعرف جيّداً أنّ أشرف مروان أحد أعظم أبطالنا، وأنّ أدبيّات الموساد التي تحاول النيل منه هي قصاصات بائسة فحسب، ولا قيمة لها. ولم يزِده صمته إزاء محاولات التشويه الإسرائيلية، احتراماً لمصلحة بلاده، وقواعد السرّيّة في عمل الاستخبارات، إلّا احتراماً وتقديراً”.

تعترف معظم دوائر السياسة الإسرائيلية أنّه تمّ خداعها في قضيّة أشرف مروان. إنّ رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وقيادات بارزة في الكنيست يرون جميعاً أنّ أشرف مروان قد تلاعب بالموساد وهزم إسرائيل. وقد جاءت حملة فيلم “الملاك” في إطار معركة داخليّة بين الموساد والاستخبارات العسكرية، حيث ترى الاستخبارات العسكرية أنّ رواية الموساد غير صحيحة، وأنّ خداع أشرف مروان للجهاز قد ألحق ضرراً جسيماً بإسرائيل.

وفي تحقيقات “لجنة أجرانات” التي تشكّلت عقب هزيمة إسرائيل في حرب 1973، اعترفت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير بخداع أشرف مروان لإسرائيل. وطبقاً للنسخة الإنكليزية من التحقيق، قالت مائير: “كنت أشكّ دوماً في أشرف مروان، وأرى أنّه أكبر خطر علينا. ولكنّ الموساد كان متحمّساً له. وفي كلِّ مرّة كان رئيس الموساد يؤكّد ثقته بمروان، كنت أقول له: Are you sure? (هل أنت متأكّد؟)، وأرى أنّ الموساد قد ابتلع الطعم، ونجح أشرف في خداعنا جميعاً”.

أصبح أشرف مروان شخصاً بالغ الثراء، ودخل صراعات عديدة في لندن، من بينها الصراع مع الملياردير المصري محمد الفايد. وعمل مع شخصيّات خطيرة في مجالات تجارية متعدّدة يقول صحافيّون إنّ من بينها تجارة السلاح، ثمّ مات في ظروف غامضة.

أضحى اللواء عبد السلام المحجوب محافظاً ووزيراً. ذهب المنصب وبقي الدور. ذهبت السلطة وبقيت السِّيرة. رحلت الوزارة وبقيت البطولة.

إقرأ أيضاً: مايكل عطية رئيساً للبنان

إنتاج فيلم “الملاك 2”

من المناسب أن يفصل المرء بين دور أشرف مروان الوطنيّ الذي يجب أن يحظى بالتقدير، وبين أدوار مروان الشخصيّة والماليّة التي قد لا تبعث على التقدير. ولقد أدّى غضب البعض من شخص مروان، الذي ربّما كان قاسياً ومتعالياً، إلى سحب غضبهم على دوره الوطنيّ.

تحتاج السينما المصرية إلى إنتاج فيلم بعنوان “الملاك 2” ردّاً على الفيلم الإسرائيلي. مهما طال الزمن لا بدّ من سيادة الحقيقة، فليس للقيم الوطنيّة تاريخ صلاحيّة، والأدوار الكبرى لا تسقط بالتقادم.

*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…