لم ييأس إيمانويل ماكرون. فهو مستمرّ في محاولته “مساعدة” لبنان. لم يبدِ أيّ مسؤول دوليّ، لا عربيّ ولا أجنبيّ، إصراراً على مساعدة لبنان بالمبادرات والضغوطات والوساطات كما فعل ويفعل وسيفعل الرئيس الفرنسي الحالي والمقبل.
لقد زار ماكرون لبنان مرّتين بعد انفجار المرفأ، وأطلق مبادرة تقلّبت “مية قلبة”. ثمّ أرسل وزير خارجيّته. بعدها توسّط لدى الأميركيين للقبول بحكومة يتمثّل فيها حزب الله. وتوسّط لدى طهران لتسهيل تشكيلها. كما أرسل سفيرته في لبنان، ترافقها السفيرة الأميركية، إلى الرياض لمحاولة تغيير موقف هذه الأخيرة من لبنان. ومنذ أيّام كان لبنان حاضراً بقوّة في لقاء ماكرون – بن سلمان. وقد أكّد على ذلك البيان الذي صدر وركّز على الإصلاحات، وحَصْر السلاح بالقوى الشرعية اللبنانية، وعدم زعزعة استقرار المنطقة، وتنفيذ القرارات الدولية… وفي نيسان 2018 دعا ماكرون إلى مؤتمر “سيدر” في باريس، الذي شاركت فيه 40 دولة وعشر منظّمات دولية. وأوفد بيار دوكان عدّة مرّات إلى بيروت لتشجيع “المنظومة الحاكمة” على القيام بما عليها من إصلاحات اشترطها المؤتمرون لحصول لبنان على الـ 11 مليار دولار مِنحاً وقروضاً. ولكن “فالج لا تعالج”…
تخشى فرنسا من أن يؤدّي انهيار الدولة في لبنان، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، إلى خلق فوضى في البلاد ستؤدّي حتماً إلى توتّرات أمنيّة، وربّما إلى حرب أهليّة
لماذا تصرّ باريس على مساعدة لبنان؟ ما هي مصالحها فيه؟
1- من المهمّ التذكير بأنّ لبنان “موطئ قدم” تاريخي لفرنسا في الشرق الأوسط. وهو بوّابة مهمّة لها إلى المنطقة وملفّاتها وصراعاتها. علاقاتها تاريخية فيه. بدأت مع الموارنة مذ كان جبل لبنان إمارة، ثمّ قائمقاميّة، فمتصرّفيّة. وتحوّلت إلى علاقة مع كلّ الطوائف مع دولة لبنان الكبير. وقد أعاد الشهيد رفيق الحريري إبراز هذه العلاقة منذ تسعينيّات القرن الماضي مسخِّراً صداقته مع الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك. فكان لفرنسا دور مهمّ في تفاهم نيسان (1996) إثر “عناقيد الغضب” الإسرائيلية ضدّ لبنان. ودعت فرنسا أكثر من مرّة الدول الصديقة للبنان إلى مساعدته اقتصادياً في مؤتمريْ باريس 1 و2.
2- لفرنسا علاقات ثقافية تاريخية أيضاً مع لبنان تعود إلى القرن الثامن عشر، مع بدء مجيء الإرساليّات الفرنسية إلى لبنان وتأسيسها المدارس، وفيما بعد الجامعة اليسوعية. ولا تزال هذه العلاقات قويّة. وباريس، التي تحتضن منظمة الأونيسكو، تهتمّ كثيراً بالعلاقات الثقافية بين الدول.
3- لبنان عضو في المنظمة الفرنكوفونية العالمية. ومنذ أيام وقّع معها اتفاقية افتتاح مكتبها الإقليمي في بيروت. كما أنّ اللغة الفرنسية هي الثانية بعد العربية، ولغة التدريس في الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية إلى جانب العربية. وهناك العديد من الجامعات والمدارس الخاصة الفرنكوفونية، على الرغم من “اجتياح” اللغة الإنكليزية للعديد منها وتحقيقها “الانتصارات” إمّا في تحوّلها كلّيّاً إلى الإنكليزية، أو جزئياً باعتماد الإنكليزية لغة تدريس بعض الموادّ.
4- إنّ شرق المتوسط، وواجهة لبنان البحريّة جزء منه، يشكّل تاريخياً أهمّية جيوستراتيجيّة لفرنسا. لذلك اختارته منطقة نفوذ لها في اتفاقية سايكس-بيكو (1916). واقتطعت خليج الإسكندرون من ولاية حلب ليكون منطقة حكم ذاتي تابعة لها، قبل أن تتنازل عنه لتركيا عشيّة الحرب العالمية الثانية (1939). اليوم، التمركز الروسي لنصف قرن على الواجهة البحرية لسوريا يزيد من أهمّية واجهة لبنان البحرية لفرنسا. إضافة إلى أنّ الهيمنة الإيرانية على لبنان، من خلال حزب الله، والعرض الصيني لإعادة إعمار مرفأ بيروت ليكون محطة على “طريق الحرير”، يزيدان من إصرار باريس على الحفاظ على نفوذها في لبنان.
5- مع اكتشاف النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، زادت أهمّية لبنان الجيوسياسية. لا تريد باريس استثمارات لشركة توتال فقط، إنّما تريد أيضاً جرّ غاز شرق المتوسط، ولبنان جزء منه، إلى أوروبا. فهذه مصادر طاقة مهمّة لها ولكلّ دول الاتحاد الأوروبي لسببين:
أ) قرب المسافة.
ب) تنويع مصادر الغاز لتحقيق استقلالية أكبر عن الغاز الروسي الذي يستعمله فلاديمير بوتين ورقة سياسية ضدّ الاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى انضمام فرنسا في آذار 2021 إلى “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي أُسِّس في القاهرة في كانون الثاني 2019، ويضمّ تجمّع منتجي الغاز والمستهلكين ودول المرور (مصر والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا). وقد تحوّل هذا المنتدى إلى منظمة إقليمية هدفها إنشاء سوق إقليمية للغاز وتقديم أسعار تنافسية.
تبدو السياسة الفرنسية في تعاملها مع الوضع اللبناني وكأنّها تعاني “سكيزوفرينيا” سياسية تتمثّل بتمييزها بين الجناح العسكري لحزب الله الذي تصنّفه إرهابياً والجناح السياسي الذي تتحاور معه
6- تخشى فرنسا من أن يؤدّي انهيار الدولة في لبنان، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، إلى خلق فوضى في البلاد ستؤدّي حتماً إلى توتّرات أمنيّة، وربّما إلى حرب أهليّة. وهذا ما يمكن أن تنتج عنه موجات هجرة لبنانية وسورية تُقلق دول الاتحاد الأوروبي.
مقابل هذه المصالح الكبرى لها في لبنان، لا تملك فرنسا الأوراق القويّة لفرضها على الأطراف الداخلية والخارجية. لذلك واجهت جهودها ومبادراتها عراقيل داخلية وإقليمية ودولية. ما هي؟
1- لبنانياً، استمرار أطراف الطبقة الحاكمة في صراعاتها وتصلّبها في رفضها القيام بأيّ نوع من الإصلاحات منذ مؤتمر “سيدر” حتى اليوم.
2- إقليمياً، مشاركة حزب الله في حروب المنطقة، ومحاولاته زعزعة أنظمة بعض دولها. ومقابل ذلك أحجمت دول الخليج عن مساعدة لبنان في ظل هيمنة الحزب.
3- دولياً، يربط دور حزب الله في الداخل والخارج، باعتباره جزءاً من نفوذ إيران في المنطقة، أيّ تطوّر في الوضع اللبناني بتطوّر المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة 5+1.
في تموز 2007، دعت فرنسا الأطراف اللبنانية إلى جلسة حوارية في مدينة “لا سيل سان كلو”. وكان بين الأطراف المدعوّة حزب الله الذي كان قد صنّفه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي حزباً إرهابياً قبل أيّام. حينها أوضح الناطق باسم الإليزيه أنّ هدف دعوة حزب الله هو “أن يقلع عن الأعمال الإرهابية ويعود حزباً سياسياً مثل باقي الأحزاب، ويشارك في العملية الديموقراطية البرلمانية..”. قبل ذلك كان موفد ساركوزي، جان كلود كوسران، قد اقترح على الإيرانيين المثالثة في الحكم في لبنان، معتقداً أنّهم سيقبلون بها مقابل سلاح الحزب. حينها، لم يعِ الفرنسيون أنّ الإيرانيين يريدون لبنان منطقة نفوذ لهم على شرق المتوسط. ولم يدركوا أنّ حزب الله هو ميليشيا مسلّحة، وليس حزباً سياسياً، ويسعى إلى حكم كلّ لبنان.
بعد ثلاثة عشر عاماً، في آب 2020، دعا إيمانويل ماكرون حزب الله مع الأحزاب اللبنانية الكبرى إلى اجتماع في قصر الصنوبر، وقال لمحمد رعد: “عودوا إلى لبنان، اثبتوا أنّكم لبنانيون…”. وبعد الاجتماع صرّح بأنّه دعا الحزب لأنّ له نوّاباً في البرلمان، “وهو جزء من المشهد السياسي اللبناني”. لم تتعلّم فرنسا شيئاً!
إضافة الى ضعف الاوراق السياسية، تبدو السياسة الفرنسية في تعاملها مع الوضع اللبناني وكأنّها تعاني “سكيزوفرينيا” سياسية تتمثّل بتمييزها بين الجناح العسكري لحزب الله (الذي تصنّفه إرهابياً) والجناح السياسي (الذي تتحاور معه). وتبدو وكأنّها تعانيها أيضاً في تعاطيها مع إيران، إذ تميّز بين إيران التي أنشأت ميليشيات لزعزعة أنظمة الدول في المنطقة، وإيران التي تشارك في مفاوضات من أجل استقرار المنطقة.
إقرأ أيضاً: ماكرون السعودي: دَفعة لسياديّي لبنان؟
هل شُفِيت من هذا المرض بعد لقاء جدّة والبيان السعودي-الفرنسي، وبعدما تأكّدت أنّ إيران في فيينا تريد رفع العقوبات، وتريد الاتفاق النووي، وتريد ضمانات أميركية بعدم الخروج منه، وتريد تخصيب اليورانيوم، وتريد النفوذ في الشرق الأوسط، وتريد تهديده بالقنبلة الذرية وبصواريخها الباليستية وتريد الاحتفاظ بميليشياتها المنتشرة في دول المنطقة؟
* أستاذ في الجامعة اللبنانية.