مطالب المملكة العربية السعودية وبقيّة الدول الخليجية من السلطات اللبنانية هي مطالب اللبنانيّين السياديّين نفسها:
– عدم استهداف أمن المملكة وباقي الدول من لبنان عن طريق حزب الله.
– وأن تنفرد السلطات اللبنانية بالسلطة والسلاح على أراضيها.
– وأن لا يستمرّ تهريب المخدِّرات إلى المملكة من لبنان.
– وأن تُجري الحكومة اللبنانية الإصلاحات الجذرية بحيث يُتاح لها طلب المساعدة من المؤسسات الدولية ومن الدول الخليجية.
– وقبل ذلك وبعده ضرورة الحفاظ على دستور الطائف، الذي كان للمملكة الفضل الأوّل في جمع اللبنانيين من حوله، وإنهاء الحرب.
هي “طبخة بحص” تلك التي يحاول الفرنسيون القيام بها في لبنان، كما في العراق وسورية. وقد يقتصر الإنجاز على إزاحة قرداحي، مع أنّنا نأمل أكثر من ذلك بكثير بسبب السوء الهائل في الأوضاع، وليس في لبنان فقط
هي القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وأمنه وسيادته التي أعاد السعوديون أخيراً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إليها!
وهكذا فإنّ موقف المملكة لم يتغيّر، بل إنّه صار موقفاً سعودياً وفرنسياً في الوقت نفسه. والذي تحقّق حتى الآن هو استقالة الوزير جورج قرداحي، وفي مقابل ذلك تحدّث ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. إنّما في المحادثة نفسها تكرّرت المطالب التي سبق ذكرها في الفقرة السابقة. وقد قال الرئيس ماكرون في مؤتمره الصحافي إنّه سيتحدّث إلى رئيس الجمهورية ميشال عون عن نتائج محادثاته في السعودية بشأن لبنان. وهذا يعني أنّه سيقول لعون ما يفترض أنّه سبق أن قاله هو ووليّ العهد السعودي لميقاتي.
لا يستطيع ميقاتي بالطبع بمفرده (وسواء وعد أم لم يَعِدْ) أن يلبّي أيّاً من المطالب المرفوعة. فحتى في مسألة قرداحي تعاون الرئيسان معاً، بل وتعاون معهم رئيس مجلس النواب الذي استأذن بالطبع حزب الله والحزب استأذن إيران. وقد كان ملحوظاً استخدام استقالة قرداحي باعتبارها جزءاً من الصفقة التي تتيح للحكومة العودة للاجتماع إذا تحقّق الشرط الآخر، وهو تنحية القاضي طارق البيطار عن ملفّ تحقيقات المرفأ، أو على الأقلّ عن التحقيق وملاحقة الرؤساء والوزراء، والعودة في ذلك إلى نصّ الدستور. ولنلاحظ أنّ حسن نصر الله زعيم الحزب المسلَّح في خطابه الأخير وضع شرطاً ثالثاً، إذا صحَّ التعبير، هو تسليم المسلَّحين الذين أطلقوا النار في الحوادث بين الطيّونة وعين الرمّانة، والذين زعم أنّ جعجعاً يخبّئهم في معراب! ولا ندري هل يريد زعيم الحزب إضافة هذا الشرط إلى شرطيْ الإفراج عن الحكومة، أم أنّه يريد وحسْب استخدام مطلب تسليم المسلّحين لزيادة الضغط من أجل الخلاص من البيطار؟!
هل حقّق الرئيس ماكرون خرقاً أو فتح كوَّةً في جدار الأزمة؟
بالطبع لا.
لكنّه، والحقّ يُقال، انضمّ إلى السعوديين واللبنانيين السياديين في القول بنزع سلاح الحزب، وبضرورة انفراد السلطات اللبنانية بالسيطرة والسلاح على الأرض اللبنانية، وفي عدم استهداف أمن دول الخليج من لبنان. وهي أمورٌ ثلاثةٌ كان ماكرون بالذات قد صمت عنها منذ تدخّله في الأزمة اللبنانية بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب عام 2020. ولا ينبغي أن ننسى أنّ فرنسا (بخلاف عشر دولٍ أُخرى كبرى ووسطى) ما تزال تفصل بين الجناح السياسي والجناح العسكري للحزب. وبسبب هذه “الميزات” للمقاربة الفرنسية للأزمة اللبنانية ولحزب السلاح، سمح الحزب لماكرون بالتدخّل، ولا ندري الآن هل يستمرّ هذا “السماح” إذا كان موقف ماكرون قد تغيّر بالفعل.
منذ العام 2000، برع الحزب، في مواجهاته مع العالم من أجل خدمة مصالح سورية وإيران، بإبراز أسباب داخلية لبنانية لأيّ أزمةٍ يثيرها. وأولى تلك الأزمات، كما هو معروف، قصة مزارع شبعا التي ظلَّ مصرّاً على تحريرها كحجّةٍ للاحتفاظ بسلاحه، على الرغم من أنّ حلفاءه السوريين قالوا ويقولون إنّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي أرض سورية. وما عادت هذه الحجّة بارزةً بعدما ظهرت معاذير مكافحة الإرهاب، وضعف الجيش اللبناني عن ردع إسرائيل.
ولا حاجة إلى عدّ المناسبات التي استخدم الحزب فيها سلاحه للتخريب والقتل في لبنان وخارجه، ودائماً بحجج ومعاذير لا تُذكرُ فيها إيران، فيما يكون الهدف الأوّل والأخير هو ارتهان لبنان وأمنه وعيش أبنائه من أجل تحقيق مصلحة أو مصالح إيرانية. إيران هيّجت ميليشياتها في لبنان والعراق وسورية واليمن منذ شهورٍ، لاستخدام ذلك في مفاوضاتها على النووي. إذ ما عاد التخويف بالنووي كافياً، بل أُضيفت إليه الصواريخ الباليستية والمسيَّرات، وزعزعة الاستقرار في دول المشرق العربي واليمن. ولذلك فإنّ تأزّمات الحكومة والبيطار والقرداحي والانهيار اللبناني الهائل، كلّ ذلك هو جزءٌ من هذا “المستنقع” من الأزمات الذي يراد من ورائه القول: سنجعل الحياة مستحيلةً عليكم أيّها العرب والأميركيون والإسرائيليون إن لم يخضع الجميع للشروط الإيرانية في مفاوضات فيينا. والذي يبدو حتى الآن بعد اجتماع 29/11 في فيينا أنّ المفاوصات طويلةٌ ومضنية. ولذلك سيظهر عدّة قراديح، وربّما تظهر من جديد تحدّيات الصواريخ الدقيقة أو التحرّش بإسرائيل من لبنان وغزّة. وربّما يكون “استراتيجيّو” الحزب المسلَّح منهمكين الآن في اختراع مشكلة أو مشاكل للمزيد من تجويع الناس في لبنان وسورية. وكلُّ ذلك لإظهار نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الدول العربية وما وراءها، فلعلَّ ذلك يفيد الإيرانيين بشكلٍ أو بآخر.
فرنسا، التي تريد منافسة أميركا المنسحبة من الشرق الأوسط، كانت قد دخلت على الملفّ اللبناني من هذا الباب. أي باب الاعتراف بالنفوذ الإيراني والتنسيق معه بحجّة تسهيل إخراج لبنان من تأزّماته. لكنّ فرنسا المنسّقة مع الحزب في لبنان، حصلت الآن على ثلاثين مليار دولار وأكثر من دول الخليج. فهل يستمرّ التنسيق مع الحزب ومجاملته على مشارف الانتخابات الرئاسية الفرنسية؟
في محادثات الرئيس الفرنسي مع وليّ العهد السعودي صدرت تصريحات تدعم كلّ مطالب الاستقلاليّين والسياديّين اللبنانيين، ومن الطرفين. وهذا الموقف الصلب هو الموقف المعروف للخليجيّين والعرب أجمعين، فهل صار الآن موقفاً فرنسياً أيضاً مثلما فعل الأميركيون والبريطانيون وغيرهم؟
نعرف الموقف الخليجي والعربي جيّداً من سنوات. وليس هناك خلاف بين العرب على إدانة التدخّل الإيراني، باستثناء اختلافات التقدير بشأن الوضع في سورية. فهل انضمّ الفرنسيون إلى هذا الموقف في لبنان؟ وكيف سينظر الإيرانيون والحزب المسلّح إلى ذلك وسط تعقّد المفاوضات في فيينا؟
إقرأ أيضاً: استقالة القرداحي: “طبخة بحص”
هي “طبخة بحص” تلك التي يحاول الفرنسيون القيام بها في لبنان، كما في العراق وسورية. وقد يقتصر الإنجاز على إزاحة قرداحي، مع أنّنا نأمل أكثر من ذلك بكثير بسبب السوء الهائل في الأوضاع، وليس في لبنان فقط.
ما حقّق الفرنسيون اختراقاً في جدار الأزمة. لكنّ هذا الخرق يمكن أن يحدث إذا أصرّ السياديون اللبنانيون، بمساعدة الخليجيّين والعرب الآخرين، على الاستمرار في إدانة الاحتلال الإيراني، والتمرّد على الطبقة السياسية الفاسدة والخاضعة للحزب، وجمعوا صفوفهم في جبهةٍ وطنيةٍ تُثبت بالنضال أنّ لبنان سيظلّ “حقيقة عربيّة”.