لا تبالوا بما جاء على لسان جورج قرداحي بالأمس في بيان الاستقالة. ما قاله الرجل ليس بذي أهمية، فهو مأمور يرتفع موقعه أو ينخفض وفقاً للجهة التي يعمل لديها، لكنّه دائماً وأبداً يُنفّذ ما يُطلب منه. قالوا له: “كن وزيراً”، فكان مع الواقفين في الصورة الرسمية لتشكيل الحكومة في قصر بعبدا. ثمّ قالوا له: “قدّم استقالتك”، فاستقال من دون مناقشة ولا تردّد. إلا أنّهم لم يقولوا له ما معنى السيادة والحرية والاستقلال، فكلّ ما نطق به لا يمتّ للسيادة وللحرّية والاستقلال بصلة:
1- عن أيّ سيادة يتحدّث قرداحي واستقالته الخطيّة فيها مخالفة دستورية عندما قدّمها لرئيسيْ الجمهورية والحكومة.
2- مَن يتحدّث عن السيادة كان عليه أن يرى ممثّل الحوثيين جالساً في الصفوف الأمامية لاحتفالات حزب الله، غير آبه لا بسيادة لبنان ولا بمصالحه.
استقالة القرداحي “طبخة بحص” فإصلاح العلاقة مع المملكة العربية السعودية لا تقوم على معايير شخصية
3- مَن يريد السيادة يجب أن يكون واضحاً بإدانته القاطعة للشعارات التي كانت تُطلق في تلك الاحتفالات مناديةً بالموت لآل سعود.
4- السيادة أيّها القرداحي لا تكون باستقالتك بناء على طلب فرنسي قُدِّم لإيران، وإيران قدّمته لحزب الله، وحزب الله طلب منك الاستقالة.
.. بعيداً عن أهزوجة السيادة والحرية والاستقلال عند قرداحي. ما يجب أن نتوقّف عنده مليّاً وقراءته بدقّة أمران لا ثالث لهما:
الأوّل: التطوّرات العسكرية والميدانية في اليمن، وتحديداً في مأرب حيث حقّق التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية انتصارات تلامس الحسم، مسجّلاً انهيارات واسعة في صفوف الميليشيات الحوثية وضربات جوية مؤلمة لكتائب خبراء الحرس الثوري الإيراني. مأرب، التي سقطت عشرات المرّات في وسائل إعلام الممانعة المدعومة من إيران، تؤكّد صمودها، لا بل انتصارها في معركة إعادة السعادة المفقودة لليمن وتثبيت هويّته العربية.
الثاني: بيان كتلة الوفاء للمقاومة في اجتماعها الأخير يوم الخميس الفائت، الذي حمل عبارة لم ترِد في أيّ بيان سابق للكتلة، ومفردات لم تشهدها أدبيّات بيانات الكتلة منذ انطلاقتها. الجملة المفتاح في البيان قالت: “الكتلة تؤكّد أهميّة وضرورة تسوية العلاقات اللبنانية مع الدول، ولا سيّما منها الدول العربية الشقيقة”. أمّا في المفردات فقد كرّر البيان كلمة “دستور” 7 مرّات و”قانون” 4 مرّات، وهذا التكرار سابقةٌ وليس تفصيلاً عابراً مع أنّه بدا وكأنّه بيان مستعار.
بعيداً عن الاستقالة وما يجب قراءته من تطوّرات سبقتها، فإنّ المفيد الذي يجب التركيز عليه من بعد هذه الاستقالة هو:
1- إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يمثّل ما يمكن تسميته بالدور الفرنسي، قد أثبت منذ تفجير المرفأ في 4 آب 2020 أنّه ظاهرة صوتية فحسب أكثر منه ظاهرة فعّالة مؤثّرة.
عن أيّ سيادة يتحدث قرداحي واستقالته الخطيّة فيها مخالفة دستورية عندما قدّمها لرئيسي الجمهورية والحكومة
إنّ أسوأ ما وصلت إليه فرنسا الدولة التاريخية الكبرى أنّ مبادرة يحملها رئيسها إلى الدول العربية الخليجية تحتاج إلى استقالة وزير في حكومة شبه مستقيلة وعاجزة عن الاجتماع والقرار. لذلك مصير مبادرة كهذه يشبه مصير المبادرة، التي جاء بها ماكرون إلى لبنان، وقدّمها في قصر الصنوبر، وبدأت بحكومة اختصاصيين وانتهت بحكومة حزبيين وأكثر.
2- إنّ أيّ خطوة أو قرار تُقرأ أهميّتهما بمدى توافر شروط الحكمة التي تقول إنّ “الحكمة هي فعل الشيء الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي”. في قضيّة قرداحي اليوم تسقط الحكمة بكلّ عناصرها وشروطها. فالاستقالة هي فعل ما ينبغي فعله، وأمّا تقديمها من وزارة الإعلام بهذا الشكل فلم تكن على الشكل الذي ينبغي، فعلى الحكومة ورئيسها أن يصنعا الاستقالة لتأكيد صلابتها وتمسّكها ببعدها العربي. ولم تأتِ هذه الاستقالة في الوقت الذي ينبغي وكأنّها حلقة في مسلسل تلفزيوني أنتجته هذه المنظومة ومعها الحكومة، عنوانه “دائماً نأتي متأخّرين”. أيّ قرار يُتّخذ متأخّراً تُصبح عواقبه أكثر من فوائده، وفي أحسن الأحوال لا يقدّم ولا يؤخّر. إنّ استقالة القرداحي “طبخة بحص”، فإصلاح العلاقة مع المملكة العربية السعودية لا يقوم على معايير شخصية، بل على معايير دول يحترم بعضها البعض الآخر على قاعدة عدم التعرّض وعدم السكوت عمّن يتعرّض لهما في كِلتا الدولتين.
العلاقات الخليجية مع لبنان، وتحديداً العلاقات السعودية مع لبنان بعمقها وأهميّتها واستراتيجيّتها، تأبى أن تعود إلى مكانها الطبيعي وإلى زهوتها على يد عهدٍ وحكومةٍ ما حملا التقدير والإيمان بالعلاقة مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية في يوم من الأيام. فبعضهم ينطق كفراً ويمارسه بالعلن، والبعض الآخر ينطق نفاقاً ويمارس كفراً. إنّ عودة هذه العلاقات إلى طبيعتها لن تتحقّق على يد حكومة فاقدة للمواصفات العربية الواضحة السهلة، الممتنعة عند مسؤولين كهؤلاء. لكن من المؤكّد أنّها ستتحقّق على يد مَن يؤمن بها، ومَن يقاتل من أجلها، ومَن يعمل في سبيل إرسائها وتمتينها وتفعيلها ومأسستها.
إقرأ أيضاً: ميقاتي يتقاسم مع فرنسا جثّة لبنان
في الختام رسالة قصيرة للرئيس نجيب ميقاتي:
يا دولة الرئيس نجيب ميقاتي. العلاقة مع المملكة العربية السعودية ليست حكاية فيل في الغرفة كما تقاربها وتصفها في كثير من المناسبات واللقاءات، بل هي حكاية نوايا صافية وقلوب مؤمنة وتوبة نصوحة. وأنت تعلم ونحن نعلم أنّ التوبة عند الصوفيّين النقشبنديّين الذين تحبّهم وتسمع لهم هي إنكار المعصية والتعهّد بعدم العودة إليها.
القصّة يا دولة الرئيس ليست قصّة الفيل بل قصّة الغرفة. والسؤال هنا: أما زال هناك غرفة؟
[VIDEO]
فيديو خبر الاستقالة على قناة “العربية”