.. يروي الوزير السابق كريم بقرادوني قصة طريفة، عندما التقى وزير الخارجية السابق فارس بويز فسأله عن مضمون اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر خلال مفاوضات مدريد للسلام عام 1991. بدأ الوزير بويز قائلاً: “قلت للوزير بيكر.. ثمّ قلت له.. ثمّ أضفت.. وأنهيت كلامي.. مع الوزير بيكر فقلت له..”. هنا انتفض الوزير بقرادوني متوجّهاً إلى بويز بالقول: “أيّها العزيز لا يهمّنا ما قلته للوزير بيكر، أخبرنا ماذا قال لك الوزير بيكر…”.
1- بيان الديوان الملكيّ السعوديّ:
أعلن الديوان الملكي السعودي عن اتصال هاتفي ضمّ كلّاً من الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود وليّ العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس مجلس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، حيث أبدى الأخير تقدير لبنان لِما تقوم به المملكة العربية السعودية وفرنسا من جهود كبيرة للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني، والتزام الحكومة اللبنانية باتّخاذ كلّ ما من شأنه تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون، ورفض كلّ ما من شأنه الإساءة إلى أمنها واستقرارها.
لقد قال لنا الرئيس ميقاتي ماذا قال في الاتصال الثلاثي مع الأمير محمد بن سلمان، مستبدلاً ضمير المتكلّم بضمير الجمع، إلا أنّه لم يقُل لنا ماذا قال الأمير محمد بن سلمان. وهنا يتركّز همّ اللبنانيين
2- البيان السعوديّ الفرنسيّ المشترك:
شدّد الجانبان على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، ولا سيّما الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأن تشمل الإصلاحات القطاع الماليّ وقطاع الطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود. واتفق الطرفان على العمل مع لبنان لضمان تطبيق هذه التدابير. وأكّدا ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلَقاً لأيّ أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدِّرات. وشدّدا على أهميّة تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان، واتفقا على استمرار التشاور بين البلدين في كلّ تلك القضايا. واتّفقا أيضاً على إنشاء آلية سعودية-فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامّة، وأعلنا عزمهما على إيجاد الآليّات المناسبة، بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة، للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني. وأكّدا على أهميّة الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680، والقرارات الدولية ذات الصلة.
3- رواية الميقاتي:
بمسعى وجهد من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لا يدّخر جهداً لدعم لبنان، جرى تواصلٌ اليوم بين فخامته وسموّ وليّ عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان وبيني فتح الباب أمام صفحة جديدة من العلاقات بين لبنان والمملكة نريدها علاقات لا يعتريها أيّ شوائب، كما كانت دائماً وتاريخيّاً. فنحن لا ننسى وقوف المملكة وسائر دول الخليج إلى جانب لبنان واللبنانيين في كلّ الأوقات، ونقدِّر أيضاً احتضانهم اللبنانيين بروح الأخوّة”.
.. إذا أردنا رصد وتتبّع حقيقة ما حصل في الاتصال الهاتفي الثلاثي ما بين الأمير محمد بن سلمان وليّ عهد المملكة والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لا بدّ أن نتتبّع الرواية بأبعادها الثلاثة، ولعلّ أدقّ متابعة هي المتابعة البنيويّة للنصوص الثلاثة:
ما قاله ميقاتي لا يقدّم ولا يؤخّر، لكنّ ما قاله الأمير محمد بن سلمان، إن كان حديثه مع ميقاتي تخطّى التحيّة والسلام، هو الذي يهمّنا، وهو الذي يؤثّر في مستقبل أيّامنا
أ – من حيث الصوت:
في الرواية السعودية هناك صوت واحد، إذ لم يلحظ البيان الصادر عن الديوان الملكي إلا ما قاله الرئيس ميقاتي الذي أبدى “تقدير لبنان لِما تقوم به المملكة العربية السعودية وفرنسا من جهود كبيرة للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني، والتزام الحكومة اللبنانية باتخاذ كلّ ما من شأنه تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون، ورفض كلّ ما من شأنه الإساءة إلى أمنها واستقرارها”. فيما غاب أيّ تصريح في هذا البيان، إنْ للأمير محمد بن سلمان أو للرئيس ماكرون. أمّا البيان المشترك السعودي الفرنسي فقد جاء ثنائياً، وليس ثلاثياً، أي كان بياناً مشتركاً للقاء بن سلمان مع ماكرون بعيداً عن الاتصال الثلاثي، وورد فيه إعلان مشترك للشروط والمطالب التي يتوجّب على الحكومة اللبنانية أن تنفّذها لإصلاح العلاقة مع دول الخليج، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية، والتي تتعلّق بإجراء إصلاحات وملفّ السلاح غير الشرعي والتورّط اللبناني في الأعمال الإرهابية التي تمسّ أمن الدول العربية. لذلك كان البيان المشترك عبارة عن صوتين لا ثالث لهما. أمّا تصريح الرئيس نجيب ميقاتي فهو محاولة تذاكٍ على الواقع الحقيقي لِما حصل في البيان الثلاثي باستعمال عبارات توحي للقارئ وكأنّها عبارات مشتركة للأطراف الثلاثة في الاتصال الهاتفي.
ب- من حيث المفردات:
بعيداً عن استعمال الرئيس نجيب ميقاتي لضمائر الجمع في حديثه، وذلك لخدمة الإيحاء بأنّ ما يقوله هو أمر متوافَق عليه بين الأطراف الثلاثة، وبعيداً عن النص المشترك الفرنسي السعودي المضبوط والمفنّد على أنّه نصّ مطالب واضحة لا لُبس فيها، فإنّ مفردة واحدة جاءت في آخر بيان الديوان الملكي السعودي يمكن أن يتوقّف عندها المتابع، بخاصة مَن يمتلك الخبرة في النصوص السعودية الرسمية وأبعادها ومغزاها. فهذه الخبرة هي التي تمكّن المتابع من قراءة ما بين السطور والكلمات.
هي عبارة بالغة الأهميّة حملها بيان الديوان الملكي عندما قال: “حيث أبدى الأخير (أي الرئيس ميقاتي)…”. واستعمال فاعل “الأخير” لفعل “أبدى” هو برسم خبراء اللغة والبيان والدبلوماسية، ونكتفي هنا بهذا الحدّ من الإضاءة.
إقرأ أيضاً: صلاة “الجنّاز” على لبنان المحتضر!
لقد قال لنا الرئيس ميقاتي ماذا قال في الاتصال الثلاثي مع الأمير محمد بن سلمان، مستبدلاً ضمير المتكلّم بضمير الجمع، إلا أنّه لم يقُل لنا ماذا قال الأمير محمد بن سلمان. وهنا يتركّز همّ اللبنانيين. فما قاله ميقاتي لا يقدّم ولا يؤخّر، لكنّ ما قاله الأمير محمد بن سلمان، إن كان حديثه مع ميقاتي تخطّى التحيّة والسلام، هو الذي يهمّنا، وهو الذي يؤثّر في مستقبل أيّامنا.