لا يتوقّف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن إطلاق مواقف تشير إلى تمسّكه بمبدأ فصل السلطات، خصوصاً لدى مقاربة ملفّ التحقيقات في تفجير المرفأ، ومطالبة الحكومة أو مجلس النواب بإيجاد الحلّ الملائم للأزمة القائمة والمستمرّة حول آليّة التحقيقات التي يتّبعها القاضي طارق البيطار.
وفي مواجهة الحلّ المفترض، الذي اُتُّفق عليه في الاجتماع الرئاسي الثلاثي بقصر بعبدا يوم عيد الاستقلال، والذي تقول المعلومات إنّه يقوم على تطبيق الدستور، والوصول إلى صيغة قانونية تعيد تفعيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وإعادة صلاحيّة التحقيق مع الرؤساء والنواب والوزراء إلى المجلس النيابي… عاد عون وميقاتي إلى إعلان موقفهما الواضح بأنّهما يطبّقان مبدأ “فصل السلطات، ولا يمكن للحكومة التدخّل بهذا الأمر، وعلى القضاء أن يجد الحلّ”.
لا ينطبق “فصل السلطات” هذا لدى ميقاتي على معادلة “تفعيل عمل الحكومة”. فهو يجد نفسه مضطرّاً إلى زيارة رئيس مجلس النواب، أي رئيس السلطة التشريعية، لمطالبته بعقد جلسة للحكومة. وهكذا تتجلّى نظريّة فصل السلطتين التشريعية والتنفيذية في هذه المعادلة التي يبتكرها ميقاتي، فيخسر المزيد من الدور والموقع.
لا ينطبق “فصل السلطات” لدى ميقاتي على معادلة “تفعيل عمل الحكومة”. فهو يجد نفسه مضطرّاً إلى زيارة رئيس مجلس النواب، أي رئيس السلطة التشريعية، لمطالبته بعقد جلسة للحكومة
حين كُلِّف ميقاتي برئاسة الحكومة، أعلن أنّه يحظى بدعم دولي، ولديه ضمانات عربية، وبدأ بالإيحاء بتلقّيه دعماً سعودياً أيضاً. ثمّ تبيّن فيما بعد أنّ كلّ هذا الكلام لم يكن سوى فقاعات هدفها تمرير الوقت والتسليم بكل شيء في سبيل تولّي المنصب.
قال ميقاتي للرئيس نبيه برّي، في اللقاء الذي جمعهما، إنّه يريد تسهيلاً منه لعقد جلسة حكومية، لأنّه يشعر نفسه عاطلاً من العمل. ربّما نظر ميقاتي إلى يديه، فوجد الضمانات التي تحدّث عنها قد تطايرت، والخيوط التي حاول أن ينسجها لتشكيل حكومته قد التفّت حول عنقه، فلم يبقَ لديه سوى الدعاء أو الشكوى، كما فعل في الفاتيكان.
يراهن ميقاتي في بقائه متعلّقاً بحبال الهواء على نقطتين أساسيّتين:
– الأولى هي الدعم الفرنسي مع ما يقتضيه ذلك من تلبية للمصالح الفرنسية في مرفأيْ بيروت وطرابلس، مقابل حماية نفسه من أيّ عقوبات أميركية.
– والثانية هي قناعته بالاهتمام الأميركي الكبير بملفّ ترسيم الحدود وإنجازه من خلال حكومته، ولذا سيكون دعم واشنطن لبقاء الحكومة محصوراً بمسألة الوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود وتوقيعه. عدا عن ذلك سيكون وجود ميقاتي على رأس الحكومة أسوأ من وجود حسان دياب، والتداعيات ستكون أخطر.
خلال الزيارة الأخيرة المبعوث الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين إلى لبنان، كان الرجل واضحاً تمام الوضوح في الكلام الذي قاله أمام رئيسيْ الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري، وكرّره على مسمع شخصيات التقاها. وقد ورد فيه أنّ المفاوضات الجدّية التي يجريها تنحصر في الوصول إلى توافق مع رئيسيْ الجمهورية ومجلس النواب فقط، وأنّه لن يكون لطرف ثالث تأثير في هذا الأمر. ويعني هذا الكلام حصر الوصول إلى اتفاق في ملفّ الترسيم بعون وبرّي، فيما سيقف ميقاتي موقف المتفرّج. في هذه الحالة أيضاً ستُضرب نظريّة فصل السلطات التي يدّعي ميقاتي الدفاع عنها والحرص عليها.
إقرأ أيضاً: في وداع نجيب ميقاتي
لا تقتصر المشكلة لدى بعض الشخصيات السياسية السنّيّة في لبنان على سعيهم وراء حساباتهم ومصالحهم الشخصية لتبوّؤ المراكز الأساسية في الدولة بدون أيّ اعتبار لمفهوم التوازن أو احترام للدستور فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى التسليم بكلّ شيء للآخرين الذين يريدون تجاوز الطائف وتوازناته السياسية في سبيل تلبية طموحات شخصية وضيّقة. بدأ هذا المسار في انقلاب 2010 على سعد الحريري بتسميته نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء، ثمّ استكمله الحريري نفسه غي العام 2016 بالتسوية الرئاسية، ثم عادت الراية إلى نجيب ميقاتي، وبات الرؤساء السُنّة يُستخدَمون في مشروع ضرب التوازنات اللبنانية والتوازن العربي أو قطع الصلة مع العمق العربي، خصوصاً بعد الأزمة الدبلوماسية بين لبنان ودول الخليج، التي يراهن ميقاتي في مواجهتها على دعم فرنسي أميركي يساعده على بقاء حكومته، في مقابل إبعاد العرب أو الابتعاد عنهم، لكنّه لا يتنبّه إلى ابتعاده عن نفسه، وإخلاله بصيغة لبنانية تقوم على التوازن المستمر في الغياب معه.