تُجمِع الأطراف الإيرانية بمختلف تيّاراتها السياسية المتنافسة والمتصارعة في الداخل، وحتى قوى المعارضة في الخارج، على أهمّية المفاوضات بين إيران ودول مجموعة 4+1 وواشنطن، التي تستضيفها العاصمة النمساوية فيينا. وتشترك في الرأي القائل بضرورة، لا بل وجوب، أن تصل إلى نتائج إيجابية لِما في ذلك من مصلحة وطنية وقومية لإيران. لكن تتزايد في الوقت نفسه الأصوات المتشكّكة في قدرة الفريق التفاوضي الذي يقوده المساعد السياسي لوزير الخارجية علي باقري كني على تحقيق إنجاز حقيقي يكون بالمستوى الذي حقّقه الوزير السابق محمد جواد ظريف وفريقه. مع ارتفاع المخاوف من أن يقع الفريق الجديد في فخّ تقديم تنازلات مجّانية لم يستطع الجانب الأميركي والترويكا الأوروبية الحصول عليها مع الفريق السابق.
تُجمِع الأطراف الإيرانية بمختلف تيّاراتها السياسية المتنافسة والمتصارعة في الداخل، وحتى قوى المعارضة في الخارج، على أهمّية المفاوضات بين إيران ودول مجموعة 4+1 وواشنطن، التي تستضيفها العاصمة النمساوية فيينا
وتكاد جميع القوى السياسية تُجمِع على ضرورة أن يحسم النظام وحكومة رئيسي التردّد في موضوع التفاوض، والخروج من حالة الخوف التي تسيطر على الفريق الإيراني، لأنّ المرحلة والأوضاع الداخلية الاقتصادية والحياتية والاجتماعية باتت تفرض على القيادة الإيرانية حسم الموقف والذهاب إلى تفاوض مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية التي تملك وحدها مفتاح الباب للخروج من هذه الأزمات. إذ إنّ أيّ تأخير في هذه الخطوة سيزيد الأوضاع سوءاً وتفاقماً قد لا ينفع معهما أيّ علاج لاحقاً. وتعتبر هذه القوى أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلّص ممّا تسمّيه حالة الابتزاز التي تمارسها دول مجموعة 4+1 بحقّ إيران، واستغلال حاجاتها الاقتصادية في ظلّ العقوبات الاقتصادية.
وقد تزيد الأمور تعقيداً بسبب المخاوف الداخلية من إمكانية أن تؤدّي العقليّة، التي يذهب بها الفريق المفاوض الجديد إلى فيينا، إلى طريق مسدود، وبسبب الكلام الصادر عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان الذي أكّد مرّة أخرى أنّ النتائج التي توصّل إليها الفريق الإيراني السابق في المفاوضات غير مجدية، وأنّ المفاوضات الجديدة ستقوم على مبدأ المطالبة بإلغاء العقوبات قبل البحث في أيّ ملف آخر حتى إعادة إحياء اتفاق فيينا.
فشل المفاوضات؟
هذا السقف العالي الذي يرسمه الجانب الإيراني للمفاوضات قد يدفع الجانب الأميركي ودول الترويكا الأوروبية إلى رفض هذه الشروط وفرض مزيد من الحصار على إيران. بسبب الشروط التي يضعها الإيراني على المفاوض الأميركي، خاصة في ما يتعلّق بإلغاء جميع العقوبات دفعة واحدة والتعويض عن الخسائر التي لحقت بإيران جرّاء العقوبات التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب، والمطالبة بالحصول على ضمانات بالتزام الإدارات الأميركية عدم الانسحاب مستقبلاً من الاتفاق.
فشل الجولة الجديدة من المفاوضات، إذا حصلت، قد يدفع واشنطن إلى اعتماد سيناريو معقّد يعيد ملفّ إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك من بوّابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس حكّامها، الذي لن يتردّد في إصدار تقرير يدين الأنشطة الإيرانية ويعتبرها خرقاً واضحاً للاتفاق النووي. وسيُحيل الملفّ إلى مجلس الأمن، الذي سيضع إيران أمام واحد من خيارين:
1- إمّا العودة إلى تنفيذ الاتفاق بجميع مندرجاته من دون الحصول على تنازل من واشنطن في موضوع العقوبات بالسقف الذي تطالب به.
2- وإمّا مواجهة عقوبات دولية هذه المرّة بناء على ما جاء في قراره الراعي للاتفاق رقم 2231.
وفي الطريق إلى هذا السيناريو، تسعى واشنطن وعواصم الترويكا، ومعهم حليفا إيران الصين وروسيا، إلى الضغط على طهران لكي لا تذهب إلى تصعيد مفتوح، ولكي تخرج الجولة الجديدة من التفاوض بنتائج واضحة بالحدّ الأدنى. هذا في ظلّ الحديث عن تفاهمات ثنائية جرت خلف الكواليس بين واشنطن وطهران لتمرير تفاهم مؤقّت يقوم على مبدأ “إلغاء جزئي للعقوبات مقابل تراجع جزئي عن الأنشطة النووية”، لا يتمّ فيه طرح مسألة البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي الإيراني التي تشكّل مصدر قلق لإسرائيل والدول العربية. بحيث يسمح هذا التفاهم للطرفين بالتفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق دائم وأوسع وأكثر ثباتاً، وإلى الأهداف التي يريدانها.
وتعني المساعي الأميركية لتمرير هذا التفاهم المؤقّت إعادة إحياء الطرح الذي تمّ بحثه في الجولات الستّ السابقة التي قادها عباس عراقتشي، رئيس الوفد الإيراني المفاوض السابق، تحت عنوان “خطوة مقابل خطوة”. وهو اقتراح سبق أن رفضته القيادة الإيرانية، وتمسّكت بمبدأ إلغاء جميع العقوبات مقابل إحياء الاتفاق القديم والبحث في مسائل من خارج الاتفاق تتعلّق باستعداد النظام الإيراني للمساعدة في الأزمات الإقليمية. خاصة تلك التي ترتبط بساحات النفوذ الإيراني في اليمن والعراق وسوريا. بما يمهّد الطريق أمام اتفاق جديد يؤسّس لمرحلة مختلفة في التعامل بين طهران وواشنطن ودول المنطقة.
اتفاق سريع.. أو ثورة في الداخل؟
هناك مؤشّرات إلى رغبة طهران بالتوصّل إلى اتفاق سريع في مفاوضات فيينا، أبرزهها انتقال باقري كني إلى فيينا يرافقه فريق كبير تجاوز عدد أعضائه أربعين شخصاً ويتكوّن من خبراء قانونيين وفنيين نوويين واقتصاديين. إلا أنّ تأكيد طهران أنّ المفاوضات الجديدة هدفها إلغاء العقوبات يدفع الكثير من المسؤولين الإيرانيين إلى الإعراب عن مخاوفهم من إضاعة الفرصة السانحة للخروج من نفق الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدولة والشعب على حدٍّ سواء. إذ إنّ أيّ خطوة باتجاه التصعيد والتهديد بالانسحاب من الاتفاق قد تضع البلاد أمام خطر العودة إلى دائرة العقوبات الدولية، التي نصّ عليها القرار الراعي لاتفاق سنة 2015 رقم 2231، عبر مجلس الأمن الدولي والفصل السابع. الأمر الذي قد يتحوّل إلى تهديد حقيقي لاستقرار نظام يواجه صعوبات كبيرة في معالجة الأزمة الاقتصادية الداخلية التي بدأت تتفاقم بشكل خطير، وعبّرت عنها التحرّكات المطلبية لمزارعي محافظة أصفهان في الأسابيع الأخيرة نتيجة السياسات المائية الفاشلة للحكومات المتعاقبة والتي أدّت إلى ارتفاع مستويات التصحّر والجفاف. وهي تحرّكات تنذر بإمكانية التوسّع لتشمل العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، مع استمرار العقوبات وشحّ الموارد المالية الذي شلّ مفاصل المؤسسات.
إقرأ أيضاً: هكذا ستحاصر إيران إسرائيل في المعركة المقبلة (1/2)
قد يكون النظام الإيراني ممسكاً بملفّاته الإقليمية، وقادراً على التحكّم بمساراتها في وجه القوى الدولية والإقليمية، إلا أنّ هذه القدرات قد تنقلب سلباً على النظام إذا فشل في توظيفها من أجل الخروج من دائرة العقوبات، وقد تنقلب عليه في حال عجز عن تقديم الحلول لأزماته الداخلية. وربّما تجبره الرغبة بالحفاظ على استقراره الداخلي واستمراريّته، على القبول بتقديم التنازلات المطلوبة منه في الإقليم.
فهل بات النظام قريباً من هذه القناعة؟ وهل حان الوقت للقيام بهذه الخطوة المصيرية؟
هذا ما ستكشف عنه الجولة الجديدة من المفاوضات التي تستضيفها العاصمة السويسرية فيينا.