لم تفاجِىء أحداً قراراتُ الهيئة العامّة لمحكمة التمييز في قضية تفجير مرفأ بيروت، سواء في ردّها طلبَيْ مخاصمة الدولة المقدّميْن من الرئيس حسان دياب ومن النائب نهاد المشنوق عن “أخطاء جسيمة” ارتكبها المحقّق العدلي طارق البيطار عبر تجاوزه صلاحيّاته وخرق الدستور، أو في ردّها دعويَيْ مخاصمة القضاة المقدّمتيْن من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر ضدّ القاضيَيْن جانيت حنّا وناجي عيد، أو في حسمها الجدل القائم حول المرجع الصالح لردّ المحقّق العدلي، معتبرةً أنّ الغرفة الأولى في محكمة التمييز برئاسة القاضي ناجي عيد هي المرجعيّة الوحيدة الصالحة لتلقّي دعاوى الردّ ضدّ المحقّق العدلي طارق البيطار… ولو أنّ هناك مَن انتظر أن تكون الهيئة العامة لمحكمة التمييز “مطبخ التسوية” التي يُراد من خلالها “تصويب” أداء المحقّق العدلي من جهة، وفتح الباب أمام عودة جلسات مجلس الوزراء من جهة أخرى.
المعطيات لا تدلّ إلّا على أنّ ملفّ التحقيقات بعيدٌ كلّ البعد عن التحقيق السليم الذي يهدف إلى بلوغ الحقيقة ولو أنّ الجهة التي تتولاه مخالفة للدستور
لكنّ العارفين بكواليس اللقاءات التي عُقِدت قبيل مغادرة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى الفاتيكان للقاء البابا فرنسيس، يجزمون أنّه لم يكن في محلّه الاتّكال على جهود رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، الذي وعد ميقاتي، وفق المعلومات، بإيجاد صيغة قانونية تسمح بسحب ملفّ التحقيق مع رئيس الحكومة السابق حسان دياب والوزراء السابقين نهاد المشنوق، علي حسن خليل، غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، من يديْ البيطار، وإعادته إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
وفق هؤلاء، فإنّ عبود وعد ميقاتي بأن يكون الإخراج القضائي في الهيئة العامة، لكن وفق معلومات “أساس” فإنّ وزير العدل هنري خوري دخل على الخطّ معرقلاً، وسارع إلى نسف هذا الاحتمال خلال لقاء جمعه برئيس الحكومة، حين أبلغه أنّ هذه الصيغة المنتظرة “غير مضمونة، لا بل غير متوفّرة”. والدليل أنّ الهيئة العامّة ردّت دعوى المخاصمة بالشكل ولم تنظر فيها بالمضمون. ويمكن الاستنتاج أنّ هناك مَن كان يعرف أنّ اجتماع الهيئة العامة لمحكمة التمييز لن يفضي إلى معالجة الخلل في الأداء الاستنسابي للقاضي بيطار الذي يشكو منه المعترضون، وكلّ ما حدث كان مماطلة وحسب، لكسب مزيد من الوقت قبل أن يعاود البيطار تحقيقاته.
تسييس البيطار وعبّود
ولعلّ هذا ما يرفع من منسوب القناعة في أذهان المعترضين بوجود أجندة سياسية تتحكّم بملفّ التحقيقات في انفجار المرفأ، خصوصاً أنّ المحقّق العدلي لم يقُم بأيّ خطوة تزيل عنه اتّهامه بالانتقائية والاستنسابية اللتين تعيبان أداءه، سواء في ما خصّ تعامله مع المؤسسة العسكرية، إذ لم يستكمل التحقيقات مع الضبّاط الذين استدعاهم، أم قيادة الجيش، بعد الوثائق التي كشفها المتحدّث باسم بعض أهالي ضحايا التفجير، ويليام نون، وأثبتت أنّ قيادة الجيش “كانت تعلم أيضاً”، أم القضاة، أم حتى في حالة الوزير السابق أشرف ريفي بعد الكشف عن مستندات تدلّ بالوثائق أنّ ريفي، المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي، والمفترض أنّه يتمتّع بالخبرة الأمنيّة التي تخوّله التدقيق في مراسلة تصله وتتحدّث عن وجود 2750 طنّاً من الموادّ الخطرة والسامّة من “Ammonium Nitrate”، كان على علم بوجود “قنبلة موقوتة” في المرفأ.
يوماً بعد يوم تزداد الأدلّة على أنّ البيطار ليس قاضياً بالعدل، بل هو مرسال سياسي، حاول تنفيذ أجندة سياسية مشتركة بين “مصمّم الأزياء القانونية والدستورية” في بعبدا، وبين دول ترعى التحقيق وتشغّله في سبيل “قلب نظام الحكم” من خلال الانتخابات النيابية المقبلة”
وبعد السجال الذي اندلع قبل فترة على أثر الكشف عن مراسلات بين وزير العدل الأسبق والسفارة الروسية في بيروت (حزيران 2014)، بعد حجز الباخرة روسوس، طلبت خلاها السفارة “المساعدة على إيجاد حلول سريعة لهذه القضية والسماح لربّان السفينة بالمغادرة والسفر إلى روسيا”، تمّ التداول خلال اليومين الماضيين بمراسلات جديدة تُبيِّن بوضوح أنّ وزير العدل الأسبق اطّلع بشكل رسمي على حقيقة وجود هذه الموادّ السامّة والخطرة، وذلك ضمن إفادة موجّهة من النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سمير حمود.
لكنّ الأهمّ من ذلك هو ما يتمّ التداول به من معلومات تفترض بأنّ القاضي طارق البيطار كان بدوره يعلم جيّداً بوجود هذه المراسلة المؤرّخة في 30 حزيران 2014، بعدما تمّ تسليمه إيّاها في نيسان 2021، لكنّه لم يجدها كافية لاستدعاء ريفي والتحقيق معه، إلا أنّه استدعى وزراء سابقين لا يتمتّعون بأيّ خبرة أمنيّة تجعل منهم “خبراء تفجيرات” أو “خبراء نيترات”.
وهذا ما يطرح سلسلة أسئلة مريبة: إذا صحّت هذه المعلومات، فلماذا لم يتحرّك البيطار باتجاه ريفي؟ وإذا لم تصحّ، فكيف غابت عنه؟ وإذا غابت وثيقة من هذا النوع، فما الذي يمنع وجود وثائق إضافية تُدين شخصيات أخرى، فيما يحصر البيطار كلّ تركيزه برئيس حكومة سابق وأربعة وزراء سابقين؟!
النتيجة أنّ هذه المعطيات لا تدلّ إلّا على أنّ ملفّ التحقيقات بعيدٌ كلّ البعد عن التحقيق السليم الذي يهدف إلى بلوغ الحقيقة ولو أنّ الجهة التي تتولاه مخالفة للدستور، لا بل تمّ إقحامه في متاهات الأجندات السياسية المحليّة والخارجية التي ستزيد من تعقيداته وألغامه مغرقةً البلد في مزيد من الأزمات والويلات.
إقرأ أيضاً: البيطار مُتّهَماً بـ”التسييس”: متى تُكفّ يدُه؟
يوماً بعد يوم تزداد الأدلّة على أنّ البيطار ليس قاضياً بالعدل، بل هو مرسال سياسي حاول تنفيذ أجندة سياسية مشتركة بين “مصمّم الأزياء القانونية والدستورية” في بعبدا، وبين دول ترعى التحقيق وتشغّله في سبيل “قلب نظام الحكم” من خلال الانتخابات النيابية المقبلة.