يمكن الحديث طويلاً عن إنجازات حقّقتها دولة الإمارات العربيّة المتحدة في الذكرى الخمسين لقيامها. لكنّ الإنجاز الأكبر يظلّ في أنّنا أمام دولة تؤمن بالإنسان وصناعة الإنسان، دولة مسالمة متصالحة مع نفسها ومع شعبها أوّلاً. دولة تبحث عن صفر مشاكل مع محيطها ومع العالم. دولة من دون عقد قادرة على مراجعة سياساتها وجعلها تتلاءم في كلّ وقت مع رؤية المؤسّس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
كانت هذه الرؤية، التي محورها الإنسان، وراء قيام دولة الإمارات التي تبقى التجربة الوحدوية العربية الوحيدة التي حقّقت نجاحا. نجحت التجربة الوحدوية للإمارات نظراً إلى أنّها استطاعت خلق مصالح مشتركة بين كل الإمارات التي يضمّها الكيان الذي قام مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كانت هذه الرؤية، التي امتلكها الشيخ زايد وأورثها إلى أبنائه، وراء كلّ ما قدّمته الإمارات طوال سنوات وما تزال تقدّمه للعرب ولغير العرب، لليمن أو لمصر أو للبنان أو لدول عربية أخرى. استطاعت الإمارات أيضاً خلق مصالح مشتركة مع كلّ المقيمين فيها من 200 جنسيّة مختلفة. بات لدى هؤلاء، الذين يشكّلون نسبة عالية جداً من السكان، اهتمام حقيقي بالمحافظة على الأمن في البلد.
يمكن الحديث طويلا عن إنجازات حققتها دولة الامارات العربيّة المتحدة في الذكرى الخمسين لقيامها. لكنّ الإنجاز الاكبر يظلّ في اننا امام دولة تؤمن بالإنسان وصناعة الانسان، دولة مسالمة متصالحة مع نفسها ومع شعبها اوّلا
لا يمكن تجاهل العلاقة التي أقامها الشيخ زايد مع اليمن، وكيف أنّه كان وراء إعادة بناء سدّ مأرب في العام 1986 كي يبقى اليمنيون في أرضهم. لا يمكن تجاهل ما قدّمته الإمارات لمصر، خصوصاً في العام 2013 حين دعمت، مع المملكة العربية السعودية والكويت، شعبها في تخلّصه من حكم الإخوان المسلمين وتخلّفهم. ليس سرّاً أيضاً أنّ الإمارات كانت دائماً داعمة للبنان، حيث قامت بحملة للتخلّص من الألغام في جنوبه. بَنَت في لبنان، بين ما بَنَت، مستشفيات ومدارس، واستثمرت في كلّ ما له علاقة بالتنمية لعلّ لبنان يستعيد عافيته يوماً بعد الهزّة التي تعرّض لها في ذلك اليوم المشؤوم من العام 2005، عندما اغتيل رفيق الحريري. خيّب لبنان كلّ الآمال المعلّقة عليه بعدما صار تحت الانتداب الإيراني وبات مستقبله في مهبّ الريح.
في الإمارات يشعر الزائر بالأمان. يشعر في الوقت ذاته أنّ هناك مواطنين يعملون لبلدهم. في النهاية، لا شيء ينجح مثل النجاح. يتجاوز الأمر نجاح حدث عالمي مثل سباق “فورمولا وان” الذي تستضيفه أبو ظبي كلّ سنة منذ العام 2008… أو معرض “إكسبو 2020” في دبي. إنّه نجاح يعطي فكرة عن تطوّر مجتمع وبلد ومؤسّسات الدولة.
ثمّة إرادة سياسية حقيقية تستهدف استخدام الثروة من أجل الاستثمار في كلّ ما هو إيجابي وحضاري بعيداً عن أيّ عقد. هناك أسس واضحة لمشروع يضع الثروة في خدمة الإنسان. إنّه مشروع مساهمة في بناء الإنسان. هكذا بكل بساطة. الإنسان محور تجربة الإمارات. من هذا المنطلق، كان الاهتمام الدائم بالمواطن، وكان التركيز على التعليم وتطوير البرامج التعليمية تحديداً كي يبتعد الطفل والشاب الإماراتي عن الخرافات وعالم التخلّف.
عبرت الإمارات إلى القرن الواحد والعشرين. هذا هو الفارق بينها وبين آخرين ما زالوا أسرى الماضي. عرفت الإمارات أنّ مصلحتها في علاقات طبيعية مع إسرائيل، من دون التخلّي عن موقفها الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني. مصلحتها أيضاً في الحصول على أحدث تكنولوجيا في العالم، أكان ذلك من الصين أو أميركا أو روسيا أو فرنسا أو ألمانيا… أو كوريا الجنوبيّة. تتطلّع الإمارات إلى ما بعد عصر النفط. تنظر إلى البيئة وإلى الطاقة النظيفة مثل الطاقة الشمسيّة.
في الإمارات يشعر الزائر بالأمان. يشعر في الوقت ذاته أن هناك مواطنين يعملون لبلدهم. في النهاية، لا شيء ينجح مثل النجاح
الأكيد أنّ أهمّ ما يخرج به مَن حضر أيَّ نشاط ثقافي أو رياضي في أبو ظبي والإمارات الأخرى، هو ذلك التطوّر الذي طرأ على الإنسان. ما يلفت الزائر هو وجود المواطن الإماراتي في كلّ مكان من أجل خدمة الزائر وتقديم صورة حقيقية عن التقدّم على صعيد المجتمع.
لم تعد أبوظبي مركزاً للمصارف والمستشفيات العالمية الكبيرة ولشركات النفط الكبرى ولمشاريع إنمائية ضخمة وللطاقة النظيفة فقط. لم تعد مركزاً لإستقطاب المتاحف العالمية مثل غوغنهايم واللوفر، ولكبرى الجامعات، أو لمعلم كبير مثل مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان فقط. إنّها فوق ذلك كلّه مكان لصنع إنسان عربي جديد يعرف قيمة العمل الجدّيّ. هذا ما يفعله الإماراتيون. إنّهم، في معظمهم، لا يخجلون من العمل. العمل صار ملازماً لصفة المواطن، بل موضع فخر له.
لم يأتِ هذا التطوّر من فراغ. لدى العودة إلى التراث الذي خلّفه الشيخ زايد، نجد أنّه عرف كيف يبني الاتحاد في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد. كذلك، عرف كيف يبني المواطن في الوقت ذاته. ربط بين العلم والعمل والحداثة والإنجاز وثقافة التسامح والانفتاح على كلّ صعيد. البلد صار أخضر. تغلّب الشيخ زايد على الصحراء. المناخ صار أقلّ قساوة اتجاه الإنسان. فوق ذلك كلّه، بات الشاب الإماراتي بعد تقديم شهداء في اليمن، يعرف معنى التضحية من أجل الدفاع عن بلده والمحافظة على أمنه. لا تُبنى الجيوش الحديثة من دون تضحيات ومن دون تجربة خوض معارك حقيقية.
تمثّل الإمارات، التي تركّز على الاهتمام بشعبها وربطه بثقافة الحياة، نموذجاً عربياً مختلفاً. تبقى نقطة مضيئة في هذا الظلام العربي. إنّها نموذج الدولة القادرة على مواجهة التحدّيات الإقليمية بحكمة وصبر من جهة، والانصراف في الوقت ذاته إلى الاهتمام بالداخل من جهة أخرى. لعلّ المثل الأفضل عن حكمة الشيخ زايد التي ورثها أبناؤه هي طريقة التعاطي مع إيران التي تحتلّ ثلاث جزر إماراتيّة منذ العام 1971.
إقرأ أيضاً: “فايننشال تايمز”: تحوّل كبير.. كيف غيّرت الإمارات سياساتها؟
هذه الجزر المحتلّة، التي ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” التفاوض في شأن مستقبلها، تؤكّد أنّ شيئاً لم يتغيّر نحو الأفضل منذ رحيل الشاه. على الرغم من ذلك، لم تتخلّ الإمارات عن هدوئها وعن رغبتها في علاقات أفضل مع إيران أو مع تركيا، التي زارها الشيخ محمّد بن زايد وليّ عهد أبو ظبي أخيراً، على الرغم من كلّ ما يبدر عن مسؤولين في البلدين من تصرّفات عدائيّة لا علاقة لها بالقيم الحضاريّة في هذا العالم.
باعتماد الحكمة والصبر والإيمان بالإنسان وامتلاك القدرة على مراجعة سياستها، متى تدعو الحاجة إلى ذلك، بقيت الإمارات وفيّة للشيخ زايد. في ذلك التكريم الحقيقي لمؤسّس الدولة ولإرثه وقيمه التي آمن بها.