ثلاثة عشر عاماً قضاها علي أبو الدهن خلف القضبان في سوريا، أمضى معظمها في سجن تدمر الصحراوي وسط سوريا. اعتقله أحد أجهزة النظام السوري أثناء سنوات هيمنته على لبنان، التي امتدّت طوال الحرب الأهليّة بين عاميْ 1975 و1990، واستمرّت بعد اتفاق الطائف حتى عام 2005.
هو واحد من 54 سجيناً أفرج النظام السوري عنهم في العام 2000، ثم توقّف عن إعطاء أيّ تفاصيل عن بقيّة المعتقلين. هؤلاء المعتقلون وثّق ناشطون وجود 622 منهم في سجون النظام السوري، على ما يؤكّد أبو دهن، الذي قضى سنوات في السجون السورية ويرأس الآن “جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية”. ويقول لـ”أساس” إنّ جماعته الحقوقية وغيرها من النشطاء وثّقوا وجود هؤلاء السجناء داخل سوريا، وإنّ السلطات اللبنانية طلبت معلومات بشأنهم من السلطات السورية، لكنّ هذه الأخيرة أنكرت وجودهم.
لم يشفع للمعتقلين اللبنانيين الانسحاب السوري من لبنان، إذ بقي ملفّهم طيّ النسيان على الرغم من إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل البلدين السفراء
تعود قضية المعتقلين اللبنانيين، أو مَن يمكن وصفهم بـ”المفقودين” و”المخفيّين قسراً في السجون السورية”، إلى مطلع سنوات الحرب الأهلية التي عرفها لبنان منذ منتصف السبعينيّات. فمع احتدامها عام 1976، دخلت القوات السورية تحت ذريعة وقف الحرب في لبنان، وبقيت تسعة وعشرين عاماً هيمنت خلالها على لبنان وقراراته السياسية والأمنيّة وعلى مقدّراته المالية. وخلال سنوات الهيمنة تلك، اعتقلت قوات النظام السوري لبنانيّين بذرائع مختلفة، ومنذ ذلك الحين بات مصيرهم مجهولاً.
في 14 شباط 2005، اغتيل رئيس الحكومة رفيق الحريري بشاحنة مُفخّخة في العاصمة بيروت، وإثر اتّهام نظام الأسد بضلوعه في اغتياله، خرجت احتجاجات شعبية في لبنان طالبت برحيل القوات السورية. وفي 26 نيسان من العام ذاته انسحبت آخر آليّة عسكرية سوريّة من لبنان.
بعد حوالي شهر من الانسحاب السوري، تشكّلت لجنة لبنانية سورية مشتركة لمتابعة ملف المعتقلين، إلا أنّها لم تحقّق أيّ نجاح. ترافق ذلك مع جهود متواصلة بذلتها لجنة عائلات المعتقلين والمفقودين اللبنانيين لمعرفة مصير هؤلاء، لكنّ الأمور ازدادت تعقيداً مع مرور السنين.
حديث الصورة: في 26 نيسان من العام 2005 انسحب النظام السوري من لبنان بعدما أحكم سيطرته عليه طوال ثلاثة عقود.
نُقِل أبو الدهن في شاحنة عسكرية مع آخرين من العاصمة بيروت إلى سجن تدمر الصحرواي وسط سوريا. ولا يزال يتذكّر الرجل يومه الأول بعد وصوله إلى سجن تدمر، وقد بقيت كلمات السجّان راسخة في ذهنه إلى اليوم: “بعد وصولنا إلى السجن، قال لنا المسؤول هناك إنّ الرئيس حافظ الأسد أصدر قراراً بمنع دخول الله إلى سجن تدمر، ولا أريد لأحد منكم أن يستجدي به. وإذا كان أحدكم مؤمناً فسنقتله، وليأتِ الله وينقذه من بين أيدينا”.
لم يشفع للمعتقلين اللبنانيين الانسحاب السوري من لبنان، إذ بقي ملفّهم طيّ النسيان على الرغم من إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل البلدين السفراء.
وعلى الرغم من إنكار النظام السوري وجودهم في سجونه، غير أنّ عدداً من الشهادات يوثّق بشكل لا لبس فيه هذا الوجود، ويقدِّم دليلاً واضحاً على مصير بعضهم.
الإعدام شنقاً
قبل سنوات تسرّب ما بات يُعرف بـ”وثائق دمشق” التي أكدت أنّ السلطات السورية تحتجز لبنانيين في عدد من السجون والمعتقلات السورية، من بينها سجون المزّة وصيدنايا وفرع فلسطين، وأنّ النظام السوري نفّذ أحكام إعدام بحقّ أربعة معتقلين لبنانيين، فيما قضى بعضهم تحت التعذيب.
ومع ظهور مزيد من المعلومات، تبدّلت الدعوة إلى الإفراج عنهم وغدت صيحةً من أجل كشف الحقيقة، مع انطفاء الأمل في العثور على الأحبّة أحياء بمرور السنين.
حديث الصورة: تظاهرة سابقة لأهالي المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية يطالبون بالكشف عن مصيرهم وإطلاق سراحهم.
ترفض عائلات هؤلاء المعتقلين والمخفيّين قسراً معلوماتٍ تشير إلى وفاة بعضهم أو إعدامهم. ويقول متحدّثون باسم ثلاث عائلات منهم لـ”أساس” إنّهم “إذا ماتوا يجب أن يُسمح لنا باسترداد رفاتهم ومعرفة ظروف الوفاة، لأنّنا لا نزال ننتظر عودة أحبّائنا ولو جثثاً”.
في تشرين الثاني 2018، أقرّ البرلمان اللبناني قانوناً بشأن المفقودين والمخفيّين من المتوقّع أن يفتح الأبواب أمام تشكيل هيئة وطنية تملك صلاحيّة التحقيق في الحالات الفردية، والتعرّف على مواقع المقابر الجماعية، واستخراج الرفات، والتمكّن من اتخاذ تدابير تسمح بإغلاق الملفّ بالنسبة إلى آلاف العائلات التي ظلّت حبيسة الحزن، إلا أنّ القانون لم يحقّق أيّ تقدُّم في الملفّ.
حديث الصورة: عدد من العائلات اللّبنانيّة كانت تزور أبناءها في السّجون السّوريّة طوال سنواتٍ قبل أن تُمنع عنها الزّيارات فجأةً ويُفقد كلّ أثرٍ لأبنائها المعتقلين.
أمام هذا الواقع، تتجدّد مطالب العائلات والمنظّمات الحقوقية للحكومة اللبنانية بالتحرّك لحلّ الملفّ، خاصة أنّها قضية لا تمسّ المعتقل فقط، بل تمسّ عائلته أيضاً. فوراء كلّ معتقل عائلة تعيش مثله، وتقاسي ألم الانتظار وألم عدم معرفة مكانه (الشعور بالمجهول).
يتحدّث محتجَزون سابقون عن تجارب مُروّعة، مثل تكديسهم لشهور أو سنوات داخل زنازين ضيّقة، يتلقّون داخلها أقلّ القليل من الطعام، ويتعرّضون لتعذيب شديد مستمرّ. ويؤكّد ناجون وفاة معتقلين تحت التعذيب، وهو ما يتقاطع مع تقارير حقوقية دولية تشير إلى ممارسة النظام السوري تعذيب ممنهج بحقّ المعتقلين حتى الوفاة.
من جهته، يشير المحامي السوري أنور البني إلى أنّ أهمّ خطوة في تحقيق العدالة للمعتقلين هي التحرّكات القضائية الدولية ضد نظام الأسد للضغط عليه في سبيل الكشف عن مصير المعتقلين السوريين وغيرهم، سواء كانوا من اللبنانيين أو من جنسيات أخرى.
اللبنانيّون ليسوا وحدهم
لم ينتهِ التغييب والإخفاء القسري في سجون النظام السوري، إذ لا يزال هذا الأخير يمارسه إلى اليوم وبصورة أكبر، حيث وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها ما لا يقلّ عن 149 ألفاً و862 شخصاً، بينهم نحو خمسة آلاف طفل، وأكثر من تسعة آلاف امرأة، لا يزالون قيد الاعتقال والاحتجاز والاختفاء القسري في سوريا، ومعظمهم يقبع في سجون النظام السوري.
ويُعتقل الأفراد في سوريا لممارستهم أحد حقوقهم الأساسية، مثل حقّ التعبير، أو لأنّهم خرجوا في تظاهرات ضد النظام السوري فسُجِنوا من غير أن تُصدِر أيّ هيئة قضائية مستقلّة أمراً بالقبض عليهم أو توجِّه إليهم تهمة أو تحاكمهم، أو من غير أن توفّر لهم إمكانية الاستعانة بمحامٍ.
إقرأ أيضاً: سوريون ولبنانيون يموتون برداً وجوعاً في أوروبا
ويُعذَّب المعتقلون ويُقتَلون ويُحبَسون انفراديّاً لسنوات، وهو ما تؤكّده 55 ألف صورة لأكوام من الجثث ولضحايا التعذيب في سجون النظام السوري سُرِّبت من سوريا عام 2013 بواسطة مصوّر الطبّ الشرعي الذي تحوّل إلى مُبلغ عن الجرائم تحت الاسم المستعار “قيصر”.