في صباح الثاني من شهر آب من العام الماضي، كانت النيران تلتهم ما تبقّى من ثلاثة محلّات تجارية في سوق البزورية بالعاصمة دمشق. وقد كانت المحلّات التي أكلتها النيران كمثيلاتها في السوق يغلب عليها بيع الأزهار والأعشاب والتوابل والبهارات، إضافة إلى أنواع متعدّدة من الحلويات بأشكال ونكهات مختلفة.
قبل ذلك بأشهر التهمت النيران محالّ تجارية في سوق مدحت باشا، الذي يقع على بعد أمتار من الجامع الأموي، والذي يشتهر ببضائعه النسيجية ذات الطابع التقليدي القديم، من أقمشة معرّقة، ومخيطة، ومنقّشة، ويتفرّع عنه سوق الحرير، وسوق الصوف، وسوق الخيّاطين.
يقول السكان المحليّون في دمشق إنّ من بين الطرق التي تستخدمها إيران لشراء المحلّات التجارية الموجودة في تلك الأسواق، إحراقها ثمّ الدفع بسماسرة محليّين ومكاتب عقارية لشرائها
آخر الحرائق نشب في سوق العصرونية القريب من قلعة دمشق الأثرية. ويختصّ السوق منذ إنشائه ببيع مستلزمات المرأة من عطور ومستحضرات زينة ومساحيق تجميل. والأهمّ من ذلك أنّه شهد تأسيس أول سوق للبورصة في سوريا.
اضطرّ مالكو العقارات التجارية الذين حُرِقت ممتلكاتهم في هذه الأسواق إلى بيع محلّاتهم التجارية بسبب عدم قدرتهم على ترميمها مجدّداً. وقد بيعت المحلات إلى مكاتب عقارية عبر سماسرة محليّين. وبعد أشهر فتحت هذه المحلّات التجارية أبوابها مجدّداً، وراحت تبيع البضائع الإيرانية من أغذية وبهارات وفواكه مجفّفة وشاي وتمور.
في السابق كانت أسواق الحميدية ومدحت باشا والحرير والبزورية وغيرها في العاصمة السورية دمشق، أماكن لبيع السلع إلى السيّاح والزوّار الإيرانيين في مقام السيّدة زينب، الذي يحمل طابعاً دينياً عندهم.
إلا أنّ هذه الأماكن الواقعة في منطقة دمشق القديمة أصبحت بعد عام 2012 هدفاً واضحاً لإيران التي شرعت في الاستيلاء على هذه العقارات والأسواق بأشكال مختلفة.
يقول السكان المحليّون في دمشق إنّ من بين الطرق التي تستخدمها إيران لشراء المحلّات التجارية الموجودة في تلك الأسواق، إحراقها ثمّ الدفع بسماسرة محليّين ومكاتب عقارية لشرائها، ولاحقاً وبطرق قانونية تتمكّن إيران عبر مؤسساتها ورجال الأعمال الإيرانيين المجنّسين في سوريا من استملاك هذه المحلات التجارية، وتحويلها إلى مراكز بيع للمنتجات الإيرانية.
حديث الصورة: حرائق تلتهم المباني والمحلات التجارية القديمة قرب سوق مدحت باشا بالعاصمة دمشق.
إغراق الأسواق بالبضائع الإيرانيّة
تستفيد إيران من هذا الاستملاك بشكل مباشر، خاصة بعدما أبرمت سوريا وإيران اتفاقية تجارة حرّة في شباط 2012 تضمن خفض الرسوم الجمركية على السلع المتداولة بين البلدين إلى نسبة 4%، وإلغاء جميع القيود الكميّة وإجراءات الحظر على الواردات ذات الأثر المماثل.
في المقابل، تأثّر الميزان التجاري الإيراني إيجاباً بالعلاقات التجارية مع سوريا خلال فترة الحرب، إذ ارتفعت قيمة التجارة الإيرانية من 361 مليون دولار في عام 2011 إلى حوالي 950 مليون دولار في 2020.
وإلى جانب اتّباع نهج استملاك العقارات، تحاول إيران التأثير على المنطقة من خلال الغزو الفكري وسياسة التغيير الديموغرافي، عبر نشاطات دينية في هذه الأسواق ونشر اللافتات والأعلام الإيرانية. وتستخدم شبكات من المؤسّسات والتجّار التابعين لإيران لضخّ البضائع التجارية في جميع الأسواق.
وتضمّ الأسواق، التي تستولي عليها إيران عبر استملاك العقارات، مئات المحلات التجارية الممتدّة بشكل متعامد على سوق مدحت باشا حتى مدخل قصر العظم، وتصل إلى قرب الجامع الأموي الكبير الأعرق في سورية.
لذلك سيغرق السوق السوري بالبضائع الإيرانية، وخاصة أنّ البضائع الإيرانية المستوردة وفق اتفاقية التجارة الحرّة مع إيران تتمتّع بإعفاء جمركي يصل في بعض الأحيان إلى 100%.
وبحسب الخبير في الشؤون الإيرانية، أيمن محمد، في حديث لـ”أساس”، فإنّ هذا الشراء ليس جديداً، لكنّه يتمّ اليوم بطريقة منظّمة، وله هدف استراتيجي هو بقاء إيران في البلاد، ويخلق فرصاً استثمارية لإيران بسبب الموقع الاستراتيجي لهذه المحلات والأسواق في قلب العاصمة دمشق.
ويضيف: “تستخدم إيران أذرعاً محليّة بكثافة الآن، وهو ما يحقّق رغبات إيران ويضمن مصالحها وبقاءها في البلاد على المدى الطويل، إضافة إلى قلب التركيبة السكانية في دمشق ومحيطها”.
حديث الصورة: أعلام إيران أمام الجامع الأموي وسوق الحميدية في العاصمة دمشق.
تثبيت الوجود الإيرانيّ
“نحن نراهم في شوارع الشام القديمة والأسواق كلّ يوم وفي كلّ مكان”، قالت زينة، وهي شابّة سورية تسكن في منطقة القيمرية بالعاصمة السورية دمشق، لدى سؤالها عن وجود الإيرانيين في منطقتها. وتضيف أنّ “الإيرانيين موجودون في جميع أسواق العاصمة دمشق. لقد أصبحت العاصمة إيرانيّة، وغالبيّة البضائع فيها من أغذية وبهارات وأدوية وملابس تأتي من إيران”.
تبدو زينة مكترثة بتغيير ملامح حيّها، إلا أنّها غير قادرة على فعل شيء: “تملّك الإيرانيون البلاد بعدما قدّم لهم بشار الأسد سوريا على طبق من ذهب، وأعطاهم كلّ التسهيلات للبقاء في البلاد مقابل مساندته في قتل السوريين”.
ويشير دكتور في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، في حديث لـ”أساس”، إلى أنّ “إيران تسعى من خلال استملاك العقارات وشراء المحلات التجارية في الأسواق الكبرى إلى تثبيت وجودها في سوريا حتى في حال سقوط بشار الأسد، من خلال الشركات والاستثمارات والعقارات التي تشتريها في مراكز حيويّة أو غيرها”.
ويضيف أنّ “عدداً كبيراً من الشركات التجارية الإيرانية على ارتباط وثيق بميليشيا الحرس الثوري الإيراني، وتُستخدَم واجهةً لتحقيق مكاسب ماليّة”.
حديث الصورة: إيرانيّون يتجوّلون في سوق الحميدية بالعاصمة السورية دمشق.
تتميّز أسواق دمشق على مستوى سوريا بتنوّع بضائعها وجودتها العالية وأسعارها المتفاوتة التي تلبّي قدرات المواطنين المختلفة. وتحمل بعض هذه الأسواق قيمةً تاريخيّةً اكتسبتها من قدم المدينة وآثارها، إلا أنّها باتت اليوم مقصداً للإيرانيين الذين يجدون فيها وسيلةً جديدةً للبقاء في البلاد.
لا تتوقّف إيران عن سعيها إلى تثبيت وجودها في سوريا من خلال نشر الميليشيات التابعة لها لتكون رديفاً وداعماً أساسيّاً للنظام السوري في عمليّاته العسكرية، أو من خلال إنشاء أو المشاركة في مشاريع استثمارية حيويّة طويلة الأجل في سوريا.
وقد مُنِحت شركات إيرانية حقّ الاستثمار في سوريا، إثر توقيع اتفاقيات تجارية واستثمارية واسعة بين النظام السوري وحليفه الإيراني خلال السنوات العشر الماضية.
ومن بين هذه الشركات التي تستولي على العقارات “بنك الأنصار” و”آية الله إبراهيمي” و”أنصار للصرافة” و”سكن للتجارة العامة” و”رضا سكن” و”سليمان ساكان” و”أطلس دوفيز للتجارة”.
إقرأ أيضاً: سوريا هي الأسوأ عالميّاً للنساء والفتيات
وبحسب دراسة قام بها “مركز جسور للدراسات”، تمتلك إيران 131 موقعاً عسكرياً بين قاعدة ونقطة وجود في عشر محافظات، 38 منها في درعا، و27 في دمشق وريفها، و15 في حلب، و13 في دير الزور، و12 في حمص، و6 في حماة، و6 في اللاذقية، و5 في السويداء، و5 في القنيطرة، و4 في إدلب.