حرب الدعاوى تشلّ العدليّة: من يُنفِّذ مذكّرات التوقيف؟

مدة القراءة 8 د

بالتزامن مع “حرب الدعاوى” التي شهدها قصر العدل، توجّهت الأنظار إلى الهيئة العامّة لمحكمة التمييز التي التأمت أمس للنظر في دعويَيْ “مخاصمة الدولة” عن أخطاءٍ ارتكبها القاضي طارق البيطار، المقدّمتيْن من جانب رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، ودعوى ثالثة ضدّ الدولة اللبنانية ممثّلة بهيئة القضايا في وزارة العدل قدّمها أمس النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر.

وفق المعلومات، انتهى الاجتماع من دون التوصّل إلى قرار في أيٍّ من هذه الدعاوى. وترجِّح مصادر قضائية أن “لا يستغرق بتّ هذا النوع من الدعاوى، الذي يُقدَّم حصراً أمام هذه الهيئة، أكثر من عشرة أيام أو أسبوعين. وتضمّ الهيئة كلّ رؤساء غرف التمييز الأصيلين، وعددهم حاليّاً خمسة بسبب الشغور، وتتّخذ قراراتها بالأكثريّة”.

تصف مصادر قضائية بارزة ما يجري بأنّه “عصفوريّة، أسوأ ما فيها تضييع الحقيقة ورفع المتاريس بين القضاة أنفسهم، ومتاريس أخرى لها بعد طائفي

وبعد انتهاء هذا الاجتماع عقد مجلس القضاء الأعلى جلسة للبحث في موضوع الدعاوى بحقّ المحقّق العدليّ وقضاة معنيّين بتحقيقات مرفأ بيروت. وقد حضر الاجتماع الذي دام نحو أربع ساعات عضو المجلس القاضي حبيب مزهر الذي تعرّض لحملة كبيرة ولهجمة دعاوى ضدّه على خلفيّة وضع يده على طلب ردّ القاضي البيطار بعدما استند، وفق مصادر قضائية، “إلى كون تكليفه رئاسة الغرفة 12 في محكمة الاستئناف مكان القاضي نسيب إيليا تضمّن إعلاناً مكتوباً من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف القاضي حبيب رزق الله بقبول تنحّي إيليا، وهو ما يعني أنّ موضوع تكليفه هو النظر في طلب ردّ البيطار”. وشهد الاجتماع نقاشًا صاخبًا بين مؤيّد لخطوة القاضي مزهر  بوضع يده على ملف ردّ القاضي البيطار وطلب ملفّ التحقيق من المحقّق العدلي، وبين معارض لها. وقد تمسّك مزهر بوجهة نظره بقانونية وضع يده على ملف ردّ البيطار.

ويقول قضاة يعرفون عن كثب القاضي مزهر: “بخلاف كلّ ما ذُكِر عنه أنّه محسوب على الفريق الشيعي، فإنّ القاضي مزهر لا ينتمي إطلاقاً لهذا المحور، وقد وافق الرئيس نبيه برّي على تسميته عضواً في مجلس القضاء الأعلى بالنظر إلى كفاءته العالية. وتعرّف عليه رئيس مجلس النواب بشكل شخصيّ منذ نحو شهرين فقط. ويمكن إجراء استطلاع بسيط في العدليّة يُظهِر أنّه قاضٍ نظيف وكفوء ولا تحكم عمله الإملاءات السياسية إطلاقاً، بل مقتضيات الملفّ الذي ينظر فيه”.

 

حرب الدعاوى

إذاً حرب الدعاوى مستمرّة في قصر العدل. ظاهرة لم يشهدها القضاء في تاريخه، وهي تفضح عطباً كبيراً يظلّل التحقيقات في انفجار المرفأ منذ “عهد” القاضي فادي صوّان حتى عهد القاضي طارق البيطار.

أمّا أبرز نتائج هذه الحرب فهو تكبيل الرئيس نجيب ميقاتي الذي يتوسّل كلّ طرق المعالجة لإنقاذ حكومته من الموت السريريّ نتيجة سوء إدارة التحقيق العدلي في قضية المرفأ، ثمّ انفجار لغم الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج.

سلّم الفريق الشيعي بأن ليس مجلس الوزراء هو الجهة الصالحة لوضع المحقّق العدلي عند حدّه ووقف تجاوزاته القانونية والدستورية. التقى الجميع على أن يكون الحلّ قضائيّاً بحتاً، لكنّ التخريجة لم ترَ النور، ووزير العدل “نحّى نفسه” عن المُهمّة.

ومع الوقت، تحوّل مسعى كفّ يد البيطار إلى كرة ثلجٍ كبيرة ضَربت “العدليّة” وقَسَمت الجسم القضائي إلى معسكرات. بات للبيطار “جيش” قضائيّ داعم له، وآخر داعم للقاضي حبيب مزهر.

فبعد رفض كلّ دعاوى الردّ التي رفعها المدّعى عليهم بحقّ القاضي البيطار، وصلت الكرة إلى ملعب القاضي حبيب مزهر الذي أصدر قراراً بكفّ يد الأخير مؤقّتاً إلى حين بتّ طلب ردّ المحقّق العدلي بُعيْد انتداب مزهر إلى رئاسة الغرفة رقم 12 في محكمة الاستئناف المدنية مكان القاضي نسيب إيليا “الذي قُبِل طلب تنحّيه”.

قامت القيامة ولم تقعد بعدما اُتُّهِم مزهر بوضع يده على ملفّ ردّ القاضي البيطار، فيما هو مخوّل حصراً، برأي جهات قضائية، أن يبتّ بطلب ردّ القاضي نسيب إيليا المقدّم من الوزير السابق يوسف فنيانوس.

يقول قضاة يعرفون عن كثب القاضي مزهر: “بخلاف كلّ ما ذُكِر عنه أنّه محسوب على الفريق الشيعي، فإنّ القاضي مزهر لا ينتمي إطلاقاً لهذا المحور

إذاً لم يكن يوم العدليّة أمس اعتياديّاً. خمس دعاوى في يوم واحد والآتي أعظم:

– الوزيران السابقان علي حسن خليل وغازي زعيتر قدّما دعوى “مخاصمة الدولة” أمام محكمة التمييز. والقرارات موضوع الدعوى هي: القرار الصادر عن الغرفة الأولى في محكمة التمييز المدنية، والمؤلّفة من القاضيين ناجي عيد والمُستشارة روزين غنطوس، والقرار الصادر عن الغرفة الخامسة في محكمة التمييز المدنية المؤلّفة من جانيت حنا والمستشارين نويل كرباج وجوزف عجاقة، والقاضي “بعدم إبلاغ القاضي المطلوب ردّه والخصوم بطلب الردّ المقدّم من المدّعيَيْن وعدم قبول طلب الردّ”…

– الوزير فنيانوس تقدّم بدعوى ردّ القاضية روزين الحجيلي المستشارة في هيئة محكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في دعوى ردّ القاضي البيطار، والتي سبق لها أن أعطت رأيها (بالرفض) في دعوى مماثلة.

– تحالف “متّحدون” تقدّم بطلب ردّ القاضي مزهر أمام محكمة الاستئناف في بيروت.

– دعوى من محامي الادّعاء عن الضحايا الأجانب بانفجار المرفأ بحقّ القاضي مزهر أمام مجلس القضاء الأعلى، مع طلب إحالته إلى التفتيش القضائي.

– دعوى من مجموعة “الشعب يريد إصلاح النظام” أمام هيئة التفتيش القضائي بحقّ مزهر.

هكذا، بات الأمر يحتاج إلى “دليل إرشاديّ” للفصل بين ما يقارب 20 دعوى مرتبطة بتحقيقات المرفأ غالبيّتها ضدّ البيطار.

 كلّ هذا الضياع وفوضى الدعاوى وانقسام القضاة على تفسير القانون، وتأخُّر التحقيقات في انفجار المرفأ، وبدء إعداد طلبات جديدة لإحالة قضاة إلى التفتيش القضائي، وصولاً إلى تسريب معطيات عن احتمال رفع دعوى ضدّ رئيس مجلس القضاء الأعلى، كلّ ذلك كان يمكن أن لا يحصل لو احترم القاضي البيطار الدستور وسلّم بأنّ ملاحقة رئيس حكومة سابق ووزراء سابقين ونواب ليست من صلاحيّته، بل من صلاحيّة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إضافة إلى الاستنسابيّة التي طبعت مساره في العمل، والتمييز الفاضح في تعاطيه مع أطراف الدعوى.

ولا يزال تصويب مسار التحقيق عالقاً في خرم الدعاوى والدعاوى المضادّة في ظلّ إصرار القاضي البيطار على أنّه صاحب صلاحيّة في ملاحقة المدّعى عليهم.

تطرح إشكاليّة تنفيذ مذكّرات التوقيف نفسها بقوّة، وتتشعّب لتطول مدى قانونيّة التنفيذ، والجهاز الأمنيّ المولج بإحضار النائب المعنيّ بالمذكّرة، وحساسيّة التوازنات الطائفية السياسية

هنا تصف مصادر قضائية بارزة ما يجري بأنّه “عصفوريّة، أسوأ ما فيها تضييع الحقيقة ورفع المتاريس بين القضاة أنفسهم، ومتاريس أخرى لها بعد طائفي. بدأت القصّة مع إصرار وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم على تعيين محقّق عدليّ مسيحي في جريمة سعى البعض إلى تصويرها أنّها استهدفت المسيحيّين، ثمّ أصرّ رئيس مجلس القضاء الأعلى على إحالة طلبات ردّ القاضي البيطار على رؤساء غرف في محكمة التمييز من الطائفة المسيحية، ثمّ رُفِعت المتاريس بوجه قاضٍ شيعيّ لمجرّد وضع يده (بغضّ النظر إذا أخطأ أو أصاب) على ملفّ طلب ردّ القاضي البيطار، واُتُّهِم بأنّه تابع للفريق الشيعي وينفّذ إملاءاته، وبأنّ انتماءه الطائفي سيشكّل طريق العبور إلى قبول طلب ردّ المحقّق العدلي”.

يُذكر أنّ القاضي نسيب إيليا قًبٍل أمس دعوى ردّ مزهر المقدّمة من تحالف “متّحدون” ويفترض أن يتبلّغ القرار اليوم ما يعني وقف إجراءاته في الملف، فيما بقيت التكهنات قائمة حول كيفية تعاطي القاضي البيطار مع الجلسة التي كان حدّدها اليوم للاستماع إلى النائب غازي زعيتر كمدّعى عليه.  

واليوم تتركّز جهود جهات قضائية على اعتبار قرار مزهر بكفّ يد القاضي البيطار باطلاً وكأنّه لم يكن، خصوصاً بعدما جرؤ مزهر على طلب كامل ملفّ تحقيقات المرفأ من القاضي البيطار. وتؤكّد بعض الآراء القانونية استحالة سحب قرار كفّ يد المحقّق العدلي لأنّه صادر عن قاضٍ صاحب اختصاص ومن موقعه كرئيس غرفة استئناف.

تنفيذ مذكّرات التوقيف

من جهة أخرى، وبعد تعميم النيابة العامّة التمييزية على الأجهزة الأمنيّة مذكّرة التوقيف الغيابيّة بحقّ الوزير السابق علي حسن خليل، وتسريب أجواء عن رفض المدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان تنفيذ المذكّرة، أرسل الأخير استيضاحاً، وفق بيان المديريّة، إلى المحامي العامّ لدى المجلس العدليّ “عن النصّ الدستوريّ في مادّته الأربعين التي لا تجيز توقيف النائب أثناء دور انعقاد مجلس النواب، ليُصار من قبل الجهة القضائية المعنيّة التأكيد على الطلب من عدمه، حرصاً منّا على تطبيق النصوص الدستوريّة والقانونيّة”.

إقرأ أيضاً: الراعي اعترف بـ”تسييس” البيطار… وباسيل يريد الثمن

وتطرح إشكاليّة تنفيذ مذكّرات التوقيف نفسها بقوّة، وتتشعّب لتطول مدى قانونيّة التنفيذ، والجهاز الأمنيّ المولج بإحضار النائب المعنيّ بالمذكّرة، وحساسيّة التوازنات الطائفية السياسية “التي قد يؤدّي المسّ بها إلى هزّة داخلية غير مضمونة النتائج”، على حدّ تعبير شخصية سياسية.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!

بعد انقضاء نصف مهلة الستّين يوماً، الواردة في اتّفاق وقف إطلاق النار، ها هي القوّات الإسرائيلية تدخل وادي الحجير. ذلك الوادي الذي كان في عام…

الموقوفون الإسلاميّون… ملفّ أسود حان وقت إقفاله

عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على…

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…