يمكن القول إنّ منظومة السلطة حتى اللحظة استطاعت أن تمتصّ الصدمة وتهضم الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج، لكن يبدو أنّ ذلك سيستمرّ فقط إلى حين. فصحيح أنّ مسبّب الأزمة الظاهري هو الوزير جورج قرداحي، ولم يستقِل، وصحيح أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نجح حتّى اللحظة في تمييع مواقفه وربطها بـ”لقاءاته البيئية” ذات الطابع السياسي في العاصمة الاسكتلنديّة غلاسكو، لكنّ الأهمّ هو أنّ سعر صرف الدولار الذي كانت الناس تتخوّف من أن يطير، يسجّل اليوم استقراراً ملحوظاً وغريباً.
ليس هذا الاستقرار نتيجة تماسك الليرة ولا قوّتها على الإطلاق، وإنّما نتيجة “يد خفيّة”، على ما يبدو، كانت تتدخّل دوماً لترفع السعر أو لتخفضه بحسب المناسبات والظروف والمزاج السياسي السائد. ويبدو أنّ المصلحة اليوم تقتضي إظهار “مناعة ليراتية” بمواجهة عزلة لبنان الخليجية المستجدّة.
تشير أرقام غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان إلى أنّ حجم تحويلات الدولار إلى لبنان خلال العام 2020 قد بلغت نحو 6.3 مليارات دولار من كلّ دول العالم، وتنفرد السعودية بـ30% من هذه الأرقام
استطاعت هذه اليد أن تسيطر على مخاوف السوق في اليومين الماضيين، فهدّأت من روع السوق الذي اُفتُتِح صباح الثلاثاء، بعد نهاية الأسبوع وعيد جميع القدّيسين، على سعر 20700 ليرة للشراء و20900 ليرة لبنانية للمبيع، وسط هدوء ملحوظ في العرض والطلب ساد أمس، حسبما قال مصدر صيرفيّ لـ”أساس”.
وكشف المصدر أنّ التقارب بين سعريْ الشراء والمبيع يعني أنّ السوق “مستقرّ جدّاً، وخالٍ من أيّ مخاوف نتيجة تقلّبات مفاجئة”، لكنّه في المقابل أكّد أنّ هذا الهدوء “يبقى مرهوناً بعدم التصعيد”، لأنّ الأحاديث المتواترة توحي بأنّ عاصفةً جديدةً تنتظرنا، بدأت بالتلويح بوقف حركة الملاحة الجويّة، وربّما لاحقاً تُستتبَع بفرض عقوبات على شخصيّات لبنانية في دول الخليج، وصولاً إلى وقف التحويلات من السعودية إلى لبنان، أو ربّما من دول خليجية أخرى أيضاً، وهذا كفيل بـ”قلب الأمور رأساً على عقب”.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى بعض الأرقام لمعرفة ما قد ينتظر الاقتصاد اللبناني وقطاعه النقدي، خصوصاً في حال أقدمت المملكة العربية السعودية على وقف التحويلات بعد وقف استيراد البضائع اللبنانية.
الإمارات هي الأولى
تشير أرقام غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان إلى أنّ حجم تحويلات الدولار إلى لبنان خلال العام 2020 قد بلغت نحو 6.3 مليارات دولار من كلّ دول العالم، وتنفرد السعودية بـ30% من هذه الأرقام. أي أنّ التحويلات المقبلة من السعودية هي قرابة 2.1 مليار دولار سنويّاً، أو ما يعادل 175 مليون دولار شهريّاً. وبحسب ما أكّدته مصادر غرفة التجارة والصناعة، في اتّصال مع “أساس”، فإنّ العدد شبه الرسميّ للّبنانيين المقيمين في المملكة يقارب 200 ألف لبناني، فيكون معدّل التحويل لكلّ لبناني في السعودية هو قرابة 875 دولاراً شهريّاً، وهو رقم منطقيّ جدّاً.
لكن في حال صعّدت السعودية ومنعت هذه التحويلات إلى لبنان، سيفقد لبنان قسماً كبيراً من هذه الأموال، وسينشأ عن هذا النقص ضغط كثيف على سعر الصرف المتعطّش دائماً إلى العملة الخضراء. وينذر هذا الوضع بعودة سعر صرف الدولار إلى الارتفاع بشكل متسارع تصعب السيطرة عليه.
انتقال القطيعة من مجالها الدبلوماسي إلى المجال الاقتصادي سينقل الخلاف إلى مكان أصعب بكثير على اللبنانيين، وسيصعب على أيّ حكومة مقبلة تحمّل تبعاته، حتّى الآن التصعيد الخليجي مستمرّ ولن ينتهي قريباً
أمّا بالنسبة إلى الدولارات التي يتلقّاها لبنان نتيجة التصدير الذي أوقفته المملكة العربية السعودية، دون سواها من الدول الخليجية، فتشير أرقام الغرفة إلى أنّ الإمارات العربية المتحدة تحوّلت في السنوات الخمس الماضية إلى شريك لبنان الأوّل في الاستيراد والتصدير من بين دول مجلس التعاون الخليجي، مسجّلةً في العام 2020 حجم استيراد من لبنان بلغ 460 مليون دولار، فيما حلّت السعودية في المركز الثاني بـ217 مليون دولار، وبعدها قطر بـ142 مليون دولار.
أمّا لناحية تصدير البضائع إلى لبنان من دول المجلس، فسجّلت الإمارات العربية المتحدة في العام 2020 رقماً قياسياً بلغ 632 مليون دولار (أغلبه مشتقّات نفطية)، بينما حلّت السعودية في المركز الثالث (182 مليون $) بعد الكويت، الثانية برقم 189 مليون دولار.
تُظهر هذه الأرقام أنّ شريكنا الأوّل في الاستيراد من لبنان، من بين دول مجلس التعاون الخليجي في المجال التجاري، هو الإمارات العربية المتحدة، بما معدّله نحو 38.3 مليون دولار شهرياً. وقد اكتفت حتى اللحظة بالقطيعة الدبلوماسية. بيد أنّ السعودية هي موردنا الأول من العملة الصعبة، وذلك بما معدّله 175 مليون دولار شهرياً.
إقرأ أيضاً: الإفلاس السرّيّ: سلامة أخفى ورطته منذ 2011؟
في المحصّلة، يمكن القول إنّ انتقال القطيعة من مجالها الدبلوماسي إلى المجال الاقتصادي سينقل الخلاف إلى مكان أصعب بكثير على اللبنانيين، وسيصعب على أيّ حكومة مقبلة تحمّل تبعاته، حتّى الآن التصعيد الخليجي مستمرّ ولن ينتهي قريباً.