الإفلاس السرّيّ: سلامة أخفى ورطته منذ 2011؟

مدة القراءة 6 د

كشفت وكالة رويترز أخيراً أنّ حسابات مصرف لبنان سجّلت منذ كانون الأوّل من العام 2015 عجزاً في الاحتياطات الصافية بقيمة 4.7 مليارات دولار، وأنّ هذه الحقيقة كانت معروفة من قبل حاكم المصرف المركزي الذي أصرّ على عدم الإفصاح عن الرقم لعدم “زعزعة استقرار السوق الماليّة”. والاحتياطات الصافية، التي تتحدّث عنها رويترز، هي الفجوة أو العجز الناتج عن الفارق بين الاحتياطات التي يملكها مصرف لبنان من العملة الصعبة والذهب، وما يتوجّب عليه من التزامات بالعملة الأجنبيّة للمصارف وغيرها. وكانت هذه الفجوة تمثِّل، وفقاً لرويترز، إشارة مبكرة إلى الانهيار الماليّ، الذي أفضى لاحقاً إلى القضاء على المدّخرات في المصارف.

ما جرى سنة 2019 لم يكن انهياراً مفاجئاً، بل كان عمليّة تفليس سرّيّة جرت طوال تسعة أعوام بين 2011 و2019، إلى أن ظهرت أزمة السيولة لاحقاً مع اندفاع المودعين لسحب ودائعهم في أواخر العام 2019

بمعزل عن هذه المعطيات المستجدّة، تكشف مراجعة سريعة لأرقام مصرف لبنان والمؤشّرات الاقتصاديّة الأخرى أنّ عجز الاحتياطات الصافية بدأ بالتنامي منذ 2011، بالتوازي مع حدوث أزمة عجز ميزان المدفوعات الذي يلخّص الفارق بين ما يرد إلى البلاد من تحويلات وما يخرج منها. وتكشف ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة أنّ حاكم مصرف لبنان  لم يتجاهل هذا العجز وما يمثّله من خطورة على مستقبل الوضعين الماليّ والنقديّ فحسب، بل تفنّن في إخفاء هذا المؤشّر من خلال اعتماد أساليب محاسبيّة معيّنة. ومنذ 2011، وطوال تسع سنوات قبل حدوث الانهيار العلنيّ سنة 2019، كان الإفلاس السرّيّ يأخذ مجراه داخل الميزانيّات، عبر تبديد الدولارات المتوافرة لدى مصرف لبنان، وتعميق حجم الفجوة المخفيّة بإتقان من قبل المصرف المركزي. إذاً القصّة أقدم وأبعد من معطيات سنة 2015 التي أشارت إليها رويترز.

بين عاميْ 2002 و2010، استفاد لبنان من مجموعة من العوامل التي دفعت الودائع إلى التدفّق إلى نظامه المصرفي، وكان أوّلها ارتفاع معدّلات الفوائد، مقارنة بالفوائد المعدومة أو حتّى السلبيّة التي تمّ اعتمادها في المصارف الغربيّة بعد الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008. واستفاد لبنان أيضاً من عدم تأثّر نظامه المصرفي بالأزمة العالميّة، وبحْث رؤوس الأموال عن ملاذات مصرفيّة آمنة وبعيدة عن مخاطر الأزمة. وبوجود قاعدة كبيرة من المغتربين في الخارج، كان النظام المصرفي اللبناني على استعداد لجني ثمار كلّ هذه العوامل، واجتذاب التحويلات بالعملة الصعبة إليه. لهذا السبب بالتحديد، سجّل ميزان المدفوعات خلال هذه الحقبة فائض إجمالي تجاوز 25.4 مليار دولار.

ما تنبغي الإشارة إليه أنّ هذه المليارات التي دخلت لبنان بين 2002 و2010 لم تكن هبات أو تبرّعات مجّانيّة، بل كانت في واقع الأمر ودائع دخلت الميزانيّات المصرفيّة كالتزامات، أي كديون على المصارف اللبنانيّة. ومثل أيّ دين، كان من شأن هذه الأموال أن تتحوّل يوماً إلى قنبلة موقوتة تنفجر، إذا ما فشل النظام المصرفي في إدارة سيولته بالشكل الأمثل. وهذا تحديداً ما جرى لاحقاً بين 2011 و2019.

تكشف مراجعة سريعة لأرقام مصرف لبنان والمؤشّرات الاقتصاديّة الأخرى أنّ عجز الاحتياطات الصافية بدأ بالتنامي منذ 2011، بالتوازي مع حدوث أزمة عجز ميزان المدفوعات

سنة 2011 دخل لبنان منحى العجز في ميزان المدفوعات، حين تجاوزت قيمة الأموال التي جرى تحويلها إلى الخارج قيمة الأموال الواردة إلى النظام المصرفي. ومنذ ذلك الوقت، استمرّ ميزان المدفوعات بتسجيل عجوزات متتالية طوال السنوات

اللاحقة وحتّى اليوم، باستثناء سنة 2016 التي شهدت الهندسات الماليّة.

تتعدّد الأسباب التي دفعت ميزان المدفوعات إلى دخول حقبة العجز، وبينها عودة معدّلات الفوائد إلى الارتفاع في الخارج، وتداعيات الأزمة السوريّة على لبنان، والتحوّلات السياسيّة الداخليّة اللبنانيّة لاحقاً بعد تشكيل حكومة ميقاتي الثانية. لكنّ الأكيد أنّ تعامل مصرف لبنان مع هذه الأزمة أدّى إلى الكارثة التي دفعنا ثمنها سنة 2019.

في العادة، يُفترض أن يؤدّي عجز ميزان المدفوعات إلى تصحيح معيّن في قيمة العملة المحليّة، بما يسمح لاحقاً بإعادة التوازن ما بين قيمة الدولارات التي ترد إلى النظام المالي وتلك التي تخرج منه. في حالة لبنان، اتّجه مصرف لبنان منذ البداية إلى الإصرار بين 2011 و2019 على مبدأ تثبيت سعر صرف الليرة، الذي يقتضي تمويل التحويلات إلى الخارج من احتياطات مصرف لبنان، للحفاظ على قيمة العملة المحليّة. وعمليّاً، يعني تمويل التحويلات من الاحتياطات تبديد دولارات المودعين في هذا النمط من العمليّات.

بين 2011 و2018، أي قبل انفجار الأزمة الماليّة علناً وعلى مصراعيها سنة 2019، كان قد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً تراكميّاً بقيمة 16.1 مليار دولار. ومنذ 2019، استمرّ ميزان المدفوعات بتسجيل عجوزات تراكميّة بلغت حتّى اليوم حدود 16.4 مليار دولار. وكانت كلّ هذه “العجوزات” تنهش تدريجيّاً من احتياطات مصرف لبنان، وتوسِّع الفجوة الماليّة، أي الفارق بين ما يملكه مصرف لبنان من احتياطات وذهب، وما يترتّب عليه من التزامات بالعملات الصعبة.

أبدع مصرف لبنان خلال هذه الفترة في ابتداع الألاعيب المحاسبيّة التي تجنِّبه كشف هذه الفجوة. ففي مقابل التصريح عن احتياطاته التي يملكها بالعملات الأجنبيّة، حرص على عدم التمييز في الميزانيّات بين التزاماته للمصارف بالعملة الصعبة والعملة المحلّيّة، ودمج جميع هذه الالتزامات في بنود واحدة. وكان الهدف من ذلك تفادي إعطاء أيّ رقم يمكِّن المتابعين من احتساب الفارق بين الالتزامات والموجودات بالعملات الأجنبيّة. وفي الوقت نفسه، كانت المصارف تتناغم مع هذه الألاعيب، من خلال التصريح عن جميع أموالها المودعة في المصرف المركزي ضمن بنود واحدة، بمعزل عن العملة، وللهدف نفسه.

وبينما كان حجم الفجوة يبلغ حدود 4.7 مليارات دولار سنة 2015، استمرّ مصرف لبنان طوال السنوات اللاحقة باجتذاب أموال المصارف من الخارج بالدولار من خلال الهندسات الماليّة، وتسجيلها كالتزامات على المصرف المركزي. واستمرّ أيضاً بتبديد احتياطاته المتوافرة في تمويل التحويلات إلى الخارج، متسبّباً بتنامي حجم الفجوة تدريجيّاً لتتجاوز 62 مليار دولار اليوم.

باختصار، ما جرى سنة 2019 لم يكن انهياراً مفاجئاً، بل كان عمليّة تفليس سرّيّة جرت طوال تسعة أعوام بين 2011 و2019، إلى أن ظهرت أزمة السيولة لاحقاً مع اندفاع المودعين لسحب ودائعهم في أواخر العام 2019. أمّا الإشكاليّة الكبرى فتكمن في نوعيّة المعالجات التي ذهب إليها مصرف لبنان، وتحديداً عمليّات الهندسة الماليّة التي فاقمت من حجم الفجوة الموجودة بدل أن تردمها.

إقرأ أيضاً: “إعاشة” موظّفي الدولة: رشوة انتخابيّة ستضرب الليرة

هل كان الحاكم وحده يعلم ويخفي ما لديّه من أرقام، أم أنّ نواب الحاكم أو بعضهم كانوا شركاء في إخفاء الإفلاس السرّي؟

ماذا عن وزراء المالية الذين مارسوا مهامهم طوال هذه السنوات؟ أيضاً وأيضاً هل أخفى سلامة هذه الأرقام عن رؤساء الحكومات منذ 2011 حتى العام 2019؟

كل هذه الأسئلة لا جواب عليها…

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…