تغيّر المسيحيّون.. فهل يتغيّر لبنان؟

مدة القراءة 7 د

يتحوّل ما حدث في الطيّونة وعين الرمّانة إلى أزمةٍ وطنيّةٍ كبرى. فقد توافقت القيادات المسيحيّة الدينية والسياسية، طبعاً باستثناء التيار الوطني الحر، على ثلاثة أمور:

أوّلاً: إنّ ما حدث في الطيّونة وعين الرمّانة كان دفاعاً عن النفس والكرامة وأمن المواطنين وحياتهم وممتلكاتهم، وهذا يعني استطراداً اعتبار موقف الدكتور سمير جعجع سليماً مسيحيّاً ووطنيّاً، ولذا كان استنكار استدعاء جعجع إلى التحقيق.

ثانياً: إنّ التظاهرة الحاشدة والمسلّحة التي قام بها الثنائيّ الشيعيّ باتجاه قصر العدل عبر الأحياء المسيحيّة إنّما كان المقصود بها إبطال التحقيق القضائي في جريمة تفجير المرفأ، تماماً مثل ما حدث عام 2008 من اقتحامٍ لبيروت لإفشال التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولذلك سمّاها بعضهم، أظنّه الدكتور جعجع، ميني غزوة بيروت. وهذا يدلُّ، بما لا يدع مجالاً للشكّ، على أنّ الحزب متورّط في جريمة تفجير المرفأ.

ثالثاً: التوجُّه المسيحيّ أيضاً إلى حرف الأنظار عن مسؤوليّة الدكتور جعجع باتجاه الجيش الذي تصدّى للتظاهرة المسلَّحة وحاول منْعَها من التوغّل في الأحياء المسيحية.

إنّ الذي حدث أخيراً لدى المسيحيّين اللبنانيّين أسقط من جهةٍ العونيّة تماماً، وبالتالي الاهتمام بضمانة الحزب التي عيّرهم بها نصر الله في خطاباته الأخيرة، بل والاهتمام بدعوى عون أنّه يستعيد حقوق المسيحيّين من السُنّة

الطريف والمؤسي أنّ استخدام تعبير “العدالة الانتقائية والاستنسابية” انتقل من معنىً إلى معنى آخر تماماً. فقد استخدمه حزب الله والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لإدانة طريقة القاضي البيطار في التحقيق، وهو يُستخدم الآن لاستنكار استدعاء الدكتور جعجع إلى التحقيق دونما اقتران ذلك باستدعاء حسن نصر الله أيضاً.

 

المواقف الدولية

بيد أنّ الجانب الثاني من الأمر يتمثّل في التفسير الإقليمي، بل والدولي، لِما حدث. ففي الكونغرس الأميركي يُناقَش مشروع قانون يتعلّق بالوضع في لبنان يتضمّن إدانةً لحزب الله واتّهاماً له بأنّه حوَّل المرفأ إلى مكان يُستخدَم في الأعمال الإرهابية. ثمّ يأتي مبعوثون أميركيّون متعدّدون إلى لبنان برسائل وأهداف مختلفة. وهذا إضافةً إلى المفاوضات الجارية دوليّاً مع إيران للعودة إلى الاتفاق النوويّ، والمحادثات الجارية بين إيران والسعودية منذ شهور. وفي نظر هذا الفريق من المراقبين فإنّ التحرّكات الجارية في المنطقة (حتّى في الملفّ السوري والاجتماع السادس الفاشل لإنفاذ القرار رقم 2245، وثناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المفاجئ على حزب الله قبل أيّام!) تثير لدى حزب السلاح قلقاً شديداً تعبِّر عنه تصريحات زعيم الحزب وآخرين منه. ومن ذلك هذا الاهتمام غير العاديّ بتحقيقات البيطار التي وقعت في أساس انطلاق التظاهرات ومآلاتها.

ولنذهب إلى الجانب الثالث في قراءة وقائع الأحداث الأخيرة وتداعياتها. هل تشكِّل الأحداث، على الرغم من دمويّتها ومأساويّتها، فرصةً وأملاً بالمعنيَيْن: الأمل بوقف الانهيار الشامل نتيجة الاهتمام العربي والدولي المتزايد بلبنان، والفرصة والأمل الآخر بإمكان الخروج ولو بالتدريج من سلاح حزب الله والاحتلال الإيراني؟

بالنسبة إلى الأمر الأوّل (وقف الانهيار)، أحسب أنّه لا إسراع لإنقاذ لبنان قبل معرفة ما سيؤول إليه الصراع الجاري الذي بدأ صراعاً على التحقيق في تفجير المرفأ، وصار الآن صراعاً على الحزب وسلاحه والأبعاد الإقليميّة لذاك السلاح. سيزداد الجمهور اللبناني معاناةً تحت وطأة انهيار نمط العيش، وستظلّ المساعدات قليلة ومقطَّرة، وهذا إذا لم يصرّ الحزب المسلَّح على إزالة الحكومة فتزداد الكارثة هولاً.       

فإذا ذهبنا في الاتّجاه الآخر، اتّجاه الفرصة في حلٍّ أو أفق للخروج من الحزب وسلاحه، فإنّه يكون علينا الذهاب باتّجاه المشهد المحلّيّ المسيحيّ الذي شهد متغيّرات هائلة تجري منذ مدّة، لكنّ حَدَث الطيّونة بلْورَها تماماً. أحداث الثورة لدى المسيحيين قبل عامين أحدثت غربةً عن الطائف والدستور، وقد تحدّثوا جميعاً عن نظامٍ آخر جديد تماماً. وما استطاع جعجع اللحاق بهم عند الجمهور، لكنّه سكت مثلهم عن الطائف والدستور. ما بقي أحدٌ من المسيحيّين الكبار يتذكّر الدستور وتحرير الشرعيّة غير البطريرك بشارة الراعي. وفي مكانٍ من الوعي المسيحيّ العميق، كان هناك نوع من الاطمئنان إلى “الضمانة” العونيّة التي أحضرها لهم الجنرال في اتّفاقيّة كنيسة مار مخايل مع الحزب عام 2006. ولذلك ما أثار احتلال الحزب لبيروت عام 2008 استنكاراً كبيراً، مع التعزّي بأنّ السُنّة لم يفعلوا شيئاً، فلماذا يكون علينا نحن حفظ دمٍ ضيّعه أهله؟!

إنّ الذي حدث أخيراً لدى المسيحيّين اللبنانيّين أسقط من جهةٍ العونيّة تماماً، وبالتالي الاهتمام بضمانة الحزب التي عيّرهم بها نصر الله في خطاباته الأخيرة، بل والاهتمام بدعوى عون أنّه يستعيد حقوق المسيحيّين من السُنّة، إنّما باتّجاه العودة إلى الثنائيّة المسيحيّة في السبعينيّات والثمانينيّات: “الجيش والتنظيم المسلَّح”. وهما معاً أحياناً عندما تتغلّب اعتبارات الخطر على وعي المسيحيّين، وضدّ بعضهما عندما تتجدّد اعتبارات العودة إلى الدولة والتصالح مع الفرقاء الآخرين. البطريرك استقبل قائد الجيش، وبرزت اعتبارات أمن المجتمع المسيحيّ، وأنّه بحماية الجيش، بل إنّ جعجعاً قائد التصدّي هو جزءٌ من هذا المجتمع المسيحي الذي ينبغي حمايته أيضاً (!).

ما بقي أحدٌ من المسيحيّين الكبار يتذكّر الدستور وتحرير الشرعيّة غير البطريرك بشارة الراعي

وبدون الحاجة إلى الكثير من التفاصيل، هناك اليوم توجُّهان مسيحيّان رئيسيّان:

1- توجُّه الشبّان المدنيّين الذين يريدون دولةً جديدةً تماماً ونظاماً جديداً تماماً لا علاقة له بالنظام القائم الذي لم يأتِ إلاّ بالأزمات.

2- وتوجُّه المحافظين المسيحيّين، الذين يريدون إحقاق الطائف والدستور، والخلاص من الاحتلال الإيراني، ويتزعّمهم البطريرك.

أمّا الزعامات المسيحيّة الحزبية، مثل جعجع والجميّل، فهُمْ بين بين، أي بين البطريرك وبين وجهاء الثورة. يريدون الأصوات من الفئات المتوسّطة الثائرة، ويريدون الشرعيّة من البطريركيّة إذا بقي النظام القديم.

ولنعُد إلى الموضوع الأصليّ: إلى أين نحن ذاهبون؟

أحسب أنّ العودة إلى اتفاق الطائف أسهل المخارج. وكلّ تفكيرٍ آخر سيكون لغير مصلحة المسيحيّين الثائرين والمحافظين. من طريق الطائف فقط (المستنِد إلى شرعيّتين عربيّة ودوليّة) يُستعاد الانضباط الذي خلخله فائض القوّة للحزب غير اللاهي. لقد وجّه عون المسيحيّين في الاتّجاه الغلط ضد السُنّة، ثمّ تبيّن لكلّ المسيحيّين أنّ عدوَّ امتيازاتهم ونمط عيشهم وعلائقهم بالعالم، فريق آخر يريد كسر نظام العيش وحرّيّاته بالعزلة وقوّة السلاح. فخر حسن نصر الله بالمئة ألف مقاتل قيل إنّه ضدّ الجيش وليس ضدّ جعجع. ولسوء حظّنا وحظّ فارس سعيْد ونديم قطيش أنّ نصر الله ليس أقلّ أصالةً لدى الشيعة من جعجع لدى المسيحيّين. الراديكاليّتان المسيحيّة والشيعيّة عاملان حاضران دائماً في الداخل وفي العلاقة بالخارج. وتنبعث القوّة في إحداهما على وقع صعود الراديكاليّة الأخرى. وكلّ مَن يريد السلم الأهليّ ينبغي أن يخشاهما معاً.

في القرآن ثلاثة أنواعٍ من الأنفس البشرية: النفس المطمئنّة، والنفس اللوّامة، والنفس الأمّارة بالسوء. والراديكاليّتان من النوع الثالث. والبطريرك الراعي ومطران بيروت الأرثوذكسي من النوع الثاني. ويكون علينا أن نكتشف الشخصيّة أو الفئة التي تمثّل النوع الأوّل، والتي تتحرّك أو تتحوّل لاستعادة لبنان.

إقرأ أيضاً: العدالة: يحقّ للبطريرك ما لا يحقّ لغيره

كان حَدَث الطيّونة صدمةً للجميع. وربّما يدعو العقلاء منّا إلى المراجعة والتفكير في المخارج. بيد أنّ الأوان لذلك لم يؤنْ بعد لسوء الحظّ. إيران تخوض صراعاً هائلاً ستكون له نتائج في سائر أنحاء المنطقة حتّى لو كان صراعاً من أجل تنازُلاتٍ بمقابل. ولذلك ربّما تكون “التهدئة” في فترة الانتظار، التي قد تطول، هي الأمر المطلوب الآن، إنّما مَنْ الذي يعلّق الجرس؟

أمّا الدكتور فارس سعيد فينادي السُنّة ووليد جنبلاط. والذي أراه أنّ وليد بك انحاز للمسلّحين عندما كان الصمود ممكناً. أمّا السُنّة السياسيّون (أعني الرؤساء الأربعة) فقد تخاذلوا ولم يمتلكوا شجاعة المبادرة عندما كانوا يملكون إمكانيّة ذلك.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…