منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005 وحتّى هذه الأيام، ما كفّ حزب الله عن استخدام العنف والقتل والاغتيال والتهديد والإرعاب بالداخل اللبناني. وكان يعطي لذلك سببين:
– إخماد المعارضة لميليشياته المسلَّحة الضرورية من وجهة نظره لردع العدوان وتحرير الأرض.
– والسبب الآخر “استراتيجيّ”، وهو دعم المحور الإيراني في الصراع على الشرق الأوسط في مواجهة الولايات المتّحدة والعرب الذين يقاومون الاضطراب الذي ينشره الإيرانيون وميليشياتهم في بلدانهم.
بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري بدت قوى 14 آذار هي المعارِضة لميليشيات الحزب وحلفائه، وباسم الدولة السيّدة والحرّة التي تنفرد بالسلطة والسلاح
ولأنّ في لبنان أطرافاً داخليةً كانت تعارضُ المحور الإيراني وميليشياته في الدولة اللبنانية وخارجها، فقد كان ذلك سبباً آخر للحزب للاستمرار في التجييش والتقتيل بالداخل اللبناني وفي سائر البلدان العربية التي لا تقبل المحور الإيراني.
مَن هم الذين كانوا يعارضون الميليشيات وعنفها وأهدافها في لبنان والعالم العربي؟
بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري بدت قوى 14 آذار هي المعارِضة لميليشيات الحزب وحلفائه، وباسم الدولة السيّدة والحرّة التي تنفرد بالسلطة والسلاح. لذلك اتّجه عنف الحزب غير اللاهي إلى تلك القوى اغتيالاً وقتلاً علنيّاً، وصولاً إلى كسْر الطرفين الرئيسيَّيْن في تلك القوى السياسية: السُنّة باحتلال بيروت عام 2008، والدروز بالهجوم على الجبل. وبعد مؤتمر الدوحة ما عادت هناك جبهة لمقاومة الحزب، بل جرى التخلّي عمّا سوى العمل السياسي من ضمن تشكيلات الحكومات، على الرغم من الفوز الأخير لقوى 14 آذار بانتخابات العام 2009.
أمّا جنبلاط فخرج رسميّاً باتّجاه المهادنة. وأمّا جعجع فبدأ ينصرف شرقاً (سياسيّاً على الأقلّ) باقتراح قانون الانتخاب الأرثوذكسي عام 2013، قبل أن يلتحق رسميّاً بمؤيّدي الجنرال عون المرشّح الدائم للرئاسة، وحجّته أنّ سعد الحريري ما عاد يرشّحه هو للرئاسة.
وعلى أيّ حال، فإنّه حتى التصدّع السياسي لقوى 14 آذار سبقه منذ العام 2006 اتّفاق كنيسة مار مخايل بين السيّد حسن نصر الله والجنرال عون زعيم التيار الوطني الحرّ. وهو أمر أساسيّ سياسيّاً على الأقلّ. لأنّ عوناً وأنصاره ظلّوا الطرف السياسي والشعبي الرئيسيّ عند المسيحيّين حتى العام 2019. قال عون في أوساطه آنذاك إنّ هذه هي الطريقة الصحيحة لحماية المسيحيّين في لبنان وسورية، باعتبار الشيعة الأقوياء هم أقلّيّة بالمشرق العربي، ويفهمون مشكلة المسيحيّين. وعلى أيّ حال، فإنّ الحقوق المهضومة للمسيحيّين اللبنانيّين بعد الطائف هي عند السُنّة (!). ولذلك رحّب عون باحتلال بيروت من جانب الحزب عام 2008. وفي مؤتمر الدوحة قال للمسيحيّين إنّ الحزب بدأ ينصرهم على المسلمين في استعادة حقوقهم، وهذا الانتصار سيكتمل عندما يصل هو للرئاسة بمساعدة الحزب.
لقد استمرّ المسار الانحداريّ للدولة والسلطة، وتفاقم بعد إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011، وذلك لمصلحة حزب الله والمحور الإيراني. وعلى الرغم من كلّ الاغتيالات والقمصان السود وتوالي انهيارات مؤسّسات الدولة، فإنّ الجنرال عون ظلّ داعماً قويّاً للحزب، ومُقبِلاً مع الحزب على القضم من فوق وتحت إلى أن صار رئيساً بإجماعٍ عليه من الأطراف السياسية المسيحيّة والإسلاميّة (سعد الحريري ونبيه برّي ووليد جنبلاط) عام 2016، فانتهى كل شيء.
السُنّةُ السياسيون يتحمّلون مسؤوليّات التنازلات الفظيعة، وعون في حضن الحزب، والمسيحيّون وبينهم جعجع في حضنه. والجمهور السنّيّ تجري مقاتلته من الحزب والجيش والقوى الأمنيّة بتهمة الإرهاب. والرئيس عون يقول بمناسبة وبدون مناسبة إنّ لبنان محتاج إلى جيش الحزب لأنّ الجيش الوطنيّ ضعيف، ومحتاج إلى الحزب لمكافحة الإرهاب، وهو على أيّ حال لا يستخدم سلاحه بالداخل (وهو ادّعاء وافقه عليه سعد الحريري)، وسلاح الحزب باقٍ حتّى نهاية “أزمة الشرق الأوسط”.
لماذا هذا التأكيد المستمرّ للتنسيق الوثيق بين الحزب والرئيس؟
فلو عارض الرئيس استيلاء الحزب على المطار والمرفأ والمعابر مثلاً، فهل كان سلوك الحزب سيتغيّر؟ أشكُّ في ذلك ليس لأنّ الأوان كان قد فات وصار الحزب مستمتعاً بهذه السيطرة المطلقة، وصارت بيروت من العواصم الخاضعة للمحور، بحسب الحرس الثوري الإيراني، بل ولأنّ كلّ الأطراف السياسية صارت دون مستوى مناقشة المسائل التي تتعدّى المصالح المباشرة. فالجمهور السُنّيّ كان منهمكاً بهموم ردّ الهجمات عليه، والسياسيّون السُنّة منهمكون بالشكوى من مخالفات رئيس الجمهورية للدستور، والشكوى من تآكل الوظائف في الإدارة لمصلحة العونيّين، وجعجع كان منهمكاً بمجادلة جبران باسيل بشأن التقاسم والحصص، ثمّ خرج بتاتاً وقال إنّ النظام كلّه فاسد!
إنّ أهمَّ مراحل التحرّر الوطنيّ من الافتراقات الطائفية والسياسية حدثت في ثورة تشرين 2019. فقد خرجت الفئات الوسطى كلّها إلى الشارع وفي كلّ المدن والبلدات. ومع أنّ شعار “كلّن يعني كلّن” كان هو السائد، فإنّ الحملات والهتافات الأشدّ كانت على عون وجبران باسيل والحزب. وإذا كان السُنّة والمسيحيّون قد خرج معظمهم إلى الشارع، فإنّ فئات معتبرة من الشيعة وبمختلف المناطق خرجت أيضاً. وهذه الفئات كلّها وُوجِهت بعداء شديد من العونيّين، وعلى وجه الخصوص من الثنائي الشيعيّ. فقد لاحقوا الشبّان الشيعة في مناطقهم، ومضوا إلى ساحات التظاهر صارخين: “شيعة شيعة”، وتحرّشوا عدّة مرّات بالمسيحيّين على حدود الأشرفية وعين الرمّانة.
أمّا الطرابلسيون فقد اخترقتهم قوات الأمن وعملاء الأجهزة فانصرفوا إلى التخريب في شوارعهم وفي شارع المصارف ومبنى بلدية المدينة. وحدثت إزعاجات مشابهة للناس (وليس للجيش والقوى الأمنيّة) في المناطق السنّيّة الأخرى بالمنية وعكّار والبقاع، ممّن اعتبروا أنفسهم ثوّاراً، وهم في الحقيقة من أوباش الأجهزة.
تغيير المزاج الوطني العام
كان التغيير كبيراً في المزاج الوطني، وكان ملحوظاً في المزاج المسيحي. وكان الارتياع ظاهراً من انهيار نمط العيش. وما كانت هناك مشكلة لدى المشاركين في التظاهرات من السُنّة في التبرُّؤ من زعمائهم واتّهامهم بالتواطؤ أو الجبن. إنّما ظهرت التمايزات لدى الثوار المسيحيّين. فهم ما اكتفوا بلعن التركيبة كلّها، وعلى رأسها باسيل وعون، بل أرادوا بإصرار التمايُز عن القوات والكتائب، مع أنّ الكتائب ليسوا من تركيبة عون، والقوات كانوا قد خرجوا منها.
ما فشلت الثورة، كما شاع، مع أنّها خمدت ليس بسبب كورونا فقط (!). هناك بحثٌ حثيثٌ عن مجتمع سياسي جديد، وفي هذا المزاج لا يحضر الدستور والقوانين والأعراف، ويعتبرها الناس مدمَّرة أو ماضية. وقتها صار الحلّ السحري المغيِّر لكل شيء يتمثّل في الانتخابات التي أرادوها مبكِّرة. وزاد الأمر في نظرهم سوءاً أنّ “المنظومة”، وعلى أثر استقالة سعد الحريري، جاءت بحكومة برئاسة حسان دياب الذي لا خبرة لديه ولا موهبة وبالطبع لا كاريزما (!). وهو لم يفعل شيئاً غير الدخول في جدالات الانهيار بين عون والحريري، منتصراً لعون وحزب الله، وسائراً فيما زعم ضدّ حاكم المصرف المركزيّ وصندوق النقد وباتّجاه اقتصاد نصرالله وباسيل المشرقي.
مرحلة الثورة هي مرحلة تحوُّل المزاج الوطنيّ (والمسيحيّ على وجه الخصوص). وعلى الرغم من أنّ طموحاتها ما كانت تقبل بالإصلاح لتجاوز الانهيار مع وجود التركيبة، فإنّها بعثت أملاً في الخلاص وإنْ من خلال وسيلة قاصرة هي الانتخابات.
بيد أنّ المرحلة الانقلابيّة بالفعل حدثت بتفجير المرفأ الهائل. فبسرعةٍ راديكاليّةٍ شعر المسيحيون أنّهم وحدهم، وأنّهم مستضعفون ومظلومون، وأنّ المرفأ مرفؤهم هم وقد تدمَّر، وأنّ الأحياء المخرَّبة أحياؤهم. ولذلك أقبلوا بشكلٍ منقطع النظير على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبخاصّةٍ في زيارته الأولى. وهو تحدّث إليهم عن ثورة الشباب وتغيير النظام كلّه. لكنّه في الزيارة الثانية بدا مهتمّاً بالتوافق مع “المنظومة” لإقامة حكومة تنفّذ الإصلاحات التي وضع برنامجها. ومع أنّ الشبّان خافوا وخابوا، فإنّ سائر الدول الغربيّة أقبلت على تقديم المساعدات الإنسانية، وعلى الإنفاق على تدريب الشبّان من أجل الانتخابات.
من أين فكرة “المرفأ المسيحي”؟
من أين جاءت الفكرة (التي صارت اعتقاداً) أنّ المقتولين بتفجير المرفأ مسيحيّون وحسب، ثمّ ظهرت اللازمة الثانية بالتزامن مع الاعتراض على القضاة وتصرّفاتهم من جانب الشيعة والسُنّة: المقتولون مسيحيّون، والقتلة مسلمون.
كلّ وسائل الإعلام (ومعظمها مسيحيّ أو العاملون فيها معظمهم مسيحيّون إنْ لم تكن لبنانيّة) مشت بالرواية على الآخِر. وتحمّس لها على وجه الخصوص من الفِرَق السياسية القوّاتُ اللبنانية، ومَنْ يُسمَّون بـ”الشبّان المدنيين”. وكلّما قام القاضي البيطار بتصرّف ضدّ السياسيّين الشيعة والسُنّة، وعلى رأسهم حسان دياب رئيس الحكومة السابق، هَوْبَرَ الجميع وابتهجوا واعتبروا أنّ الحقيقة، ومعها الإدانة، وربّما الإعدام، قادمة لا محالة.
لا يمكن التحكّم في الرأي العامّ، سواء أكان محقّاً أم مخطئاً. لكنّ الخطأ/الخطيئة الثاني بعد خطأ/خطيئة “القتلى مسيحيون والقتلة مسلمون”، هو هذا الهياج من حزب الله على القاضي البيطار في خطابات نصر الله وإعلام الحزب والمفتي الشيعيّ، وبالطبع ما قاله المجلس الشرعيّ السنّيّ عن “الاستنسابية والانتقائية والاستهداف”، وما قاله منتدى الرؤساء الأربعة عن “مخالفة الدستور والقانون”. إنّما كلام السُنّة غير كلام الحزب المسلّح وحلفائه بالطبع، سواء في التأثير أو الإخافة.
ما عاد المسيحيون آمنين إذن بأمان عون وباسيل مع الحزب وعهده منذ العام 2006. وبخاصّةٍ أنّ التحرّشات بدأت بالأحياء المسيحية أثناء الثورة.
ما عاد المسيحيون آمنين إذن بأمان عون وباسيل مع الحزب وعهده منذ العام 2006. وبخاصّةٍ أنّ التحرّشات بدأت بالأحياء المسيحية أثناء الثورة
مَن يحمي المسيحيّين؟
القاضي البيطار ينتقم لهم، أمّا الحامي فلا أحد غير الدكتور أو الجنرال الحقيقيّ سمير جعجع. هو كان قد قال لوليد جنبلاط (كاتم الأسرار بالطبع!) قبل عام إنّ عنده خمسة عشر ألف مسلَّح (!). وكما سبق القول فإنّ الثوّار ظلّوا “متخوخشين” من جعجع وقيادته. لكنّ مسلَّحيه كانوا قد تقدّموا إلى البيوت الأولى من أحياء الأشرفية وعين الرمّانة والطيّونة منذ مدّة، وجرّبوا شجاعتهم مع “بهورجيّي” حركة أمل الذين يمارسون التخريب والاعتداء أكثر ممّا يمارسون إطلاق النار، على الرغم من كثرة أسلحتهم وضخامة عتادهم. هم يتبهورون على محطّات البنزين في بيروت الغربيّة من عدّة أشهر، ولا شكّ أنّ غزوةً باتّجاه الشرقيّة تجلب غنائم أكثر (!).
هي سخرية سوداء، لأنّه وإن كان أكثر النازلين إلى الشارع باتّجاه الأحياء المسيحيّة، من حركة أمل، فإنّ الذي وقع في الفخّ هو حسن نصر الله، القائد الاستراتيجيّ، الذي تنازل فتحالف مع بشّار الأسد وعون وباسيل مرّةً واحدةً، ثمّ قرّر التظاهر والتكسير في الأحياء المسيحيّة التي زعم حمايتها لمدّة خمسة عشر عاماً.
نصر الله وعون وباسيل، بل والثوّار المسيحيّون، وقعوا جميعاً في قبضة جعجع. مساء الأربعاء الماضي عندما كنت أسمعَ كلمة الدكتور جعجع عرفتُ أنّه أقام كميناً، وأنّ مسيحيّي الأحياء القريبة، بل والريفيّين، سيعتبرونه حامياً كما في أزمنة الحرب.
إقرأ أيضاً: “الشارع بالشارع”.. مجانينُ نحن اللبنانيّين
لا أعرف ولا أصدّق التحقيق: مَن أطلق النار أوّلاً ومَن قتل؟ الذي أقوله أنّ الانقسام المسيحي/الإسلامي وقع، وأنّ الرأي العامّ المسيحي صُنِع ليؤدّي إلى هذه النتيجة، وأنّ حسن نصر الله خسر المسيحيّين بعد السُنّة، وربّما تكلّفه خسارة المسيحيّين أكثر. خسارة السُنّة كلّفته العرب. وخسارة المسيحيّين ستكلّفه “قواعد الاشتباك”. إنّما الخاسر الأكبر لبنان الذي قد لا يقوم. لقد صار للراديكاليّة المسيحيّة قائد عسكريّ من جديد. والقائد العسكريّ للراديكاليّة الشيعيّة قائم من زمان ويعتبر نفسه زعيماً عالميّاً. وأنا أحمد الله أنّه ما كان للسُنّة قائد عسكري ولن يكون.
وللحديث بقيّة.