تفرّعت عن أزمة أحداث الطيّونة أزمات تجاوزت بكثير قضية التحقيق العدلي في قضية انفجار المرفأ. نحن، عمليّاً، أمام حكومة أصيلة “تصرِّف الأعمال”، ومحور يمتدّ من الضاحية إلى بعبدا يشهد أصعب اختبار له منذ 16 عاماً، وهزّة ضربت الجسم القضائي طالت شظاياها رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وصولاً إلى اليرزة، حيث يُطالَب الجيش بكشف المتورّطين الحقيقيّين في جريمة الطيّونة في ظلّ تقاطع المعلومات الأمنيّة عند وجود مسؤوليّة مباشرة لعناصر قوّاتيّة في عمليّات القنص، وبالكشف أيضاً عن ملابسات حدوث إطلاق نار من جانب الجيش أدّى إلى وقوع أكثر من قتيل، وفق معلومات “أساس”.
ويُتوقّع أن تتجاوز كلمة الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله اليوم كلّ السقوف. وقد مهّدت لها بعض قيادات الحزب في اليومين الماضيين بالتأكيد أنّ “ضحايا كمين الطيّونة سقطوا على يد القوات اللبنانية”، مع المطالبة “باعتقال القتلة وصولاً إلى رأس الهرم”، والحديث عن “مجزرة دمويّة اقترفها المجرمون ستكون لها تداعياتها الكبيرة على كلّ الصعد”. فضلاً عن اتّهام القوات بمحاولة إعادة تشكيل “المجلس الحربي”، وليس المجلس النيابي.
في المعلومات أنّه لم تتمكّن استخبارات الجيش حتى الآن من تحديد مكان مُطلق الرصاصة الأولى التي سبقها اشتباك بين المحتجّين الذين سلكوا طريق بدارو- مدرسة الفرير باتجاه العدلية
وهي المرّة الأولى التي يَخرج فيها الحزب منذ 2005 عن “أدبيّاته” في أسلوب التخاطب مع القوات عبر التسمية بالاسم و”تحديد” الجرم، في وقت رَفع النائب محمد رعد سقف التهديد بالقول: “حسابنا لَحال مع جماعة القنّاصين”.
مشهد لا يمكن فصله عن تحييد سمير جعجع المقصود لحركة أمل (حديثه إلى “صوت بيروت إنترناشيونال”) عن أحداث الطيّونة ملقياً المسؤولية كاملة على حزب الله.
وبينما أُثيرت تساؤلات عن مسؤوليّة للجيش في إطلاق النار، وعن وقوعه بعد البيان العسكري والأوامر التي أُعطيت بإطلاق النار “على كلّ مَن يحمل سلاحاً”، يتوقّع مطّلعون أن يتطرّق السيّد إلى هذه الإشكالية في أحداث الطيّونة لجهة مطالبة الجيش بكشف ملابسات المسألة.
وأوّل المؤشّرات كلام النائب حسن فضل الله أمس عن “حصولنا على تعهّدات موثّقة من الجيش بأنّ تدابيره مُحكمة والأمور تحت السيطرة حتّى عندما علمنا أن هناك مجموعات تتحرّك في بعض الأحياء والشوارع، مع العلم أنّ تحرّكنا تجنّب النقاط الحسّاسة”.
وقال: “هناك أسئلة مشروعة عمّا حدث، وحالة الغضب شديدة، وهناك جمر تحت الرماد”، معتبراً أنّ “أوّل إجراء لمحاولة إطفائه القبض على جميع المتورّطين، وأسماؤهم معروفة، فهناك من حرّض وخطّط وقرّر نشر مجموعات وأطلق النار. والمطلوب أيضاً محاسبة كلّ مَن له صلة أيّاً كان، ومن أعلى مسؤول إلى أدنى عنصر”.
وقد تلا مواقف قيادات حزب الله “ترسيم” جبران باسيل لـ”الحدود” مع الثنائي الشيعي في مقاربته الصداميّة لملفّ التحقيقات من خلال تأكيده “عدم وضوح تهمة التسييس ضدّ البيطار”، والتشديد على “المسار القانوني والقضائي لحلّ مسألة الارتياب والحصانات من ضمن الأصول”، ورفض باسيل “فرض أحد رأيه في مجلس الوزراء وفي الشارع، وأن يهدّد ويتوعّد، ولازم يعرف في حدا بيوقف ويقول له لأ”.
وقال باسيل في ذكرى 13 تشرين إنّه “أمام القضاء ما في درجات فئة أولى ودرجة ثانية. أو كل الناس بتروح على القضاء أو ما حدا بروح”.
تستبعد مصادر مطّلعة أن يتمّ الموافقة على الاقتراح من قبل أكثر من طرف، فإن الاجتماع الأول لأعضاء مجلس القضاء الأعلى غدًا بعد ملء الشغور فيه لن يضمّ القاضي البيطار، ويرجّح أن يحصل هذا الاجتماع يوم الخميس المقبل
وفيما كان لافتاً وصف باسيل المتظاهرين بـ”المُستَفزّين وهَجَموا بلا تفكير”، لمّح إلى أنّ شرارة أحداث الطيّونة بدأت من طرف المحتجّين “عبر الدخول إلى شارع فرعي والتكسير والسباب. وهيدا مش تظاهر سلمي”، مندّداً في الوقت نفسه باستهدافهم المقصود بالقتل.
وعلى الرغم من تأكيد باسيل تمسّكه بالتفاهم مع الحزب مخيِّراً المسيحيين بين “مشهد مار مخايل أو أحداث الطيّونة”، أثارت مواقف رئيس التيار الوطني الحر استياء لدى قيادات وجمهور الثنائي الشيعي، الذين اعتبروا أنّه “ساوى بين القاتل والمقتول”.
مجريات التحقيق
وفي المعلومات أنّه لم تتمكّن استخبارات الجيش حتى الآن من تحديد مكان مُطلق الرصاصة الأولى التي سبقها اشتباك بين المحتجّين الذين سلكوا طريق بدارو- مدرسة الفرير باتجاه العدلية، وتلاسنوا وتبادلوا الإشارات البذيئة مع مجموعة قليلة العدد من مناصري القوات وأهالي عين الرمّانة، ثمّ بدأ التكسير والفوضى، وتلا ذلك انطلاق المواجهة المسلّحة.
والمفارقة أنّنا أمام وزير داخلية جزم “حدوث إطلاق نار مباشر في بداية التحرّك على رؤوس المحتجّين”، ووزير دفاع تحدّث عن “تدافع واشتباك أدّيا إلى إطلاق نار من الطرفين سبق القنص، بعد دخول شبّان إلى شوارع عين الرمّانة”.
وأكّد مساء أمس في حديث تلفزيوني أنّ ما حصل في الطيونة “ليس كميناً”، ولم ينفِ أو يجزم وجود قناصين “والأمور ما تزال رهن التحقيق”.
وتتركّز التحقيقات على معرفة ظروف مقتل كل ضحية، والمتورّطين في القنص وتبادل إطلاق النار من الجهتين، بالتزامن مع تحقيقٍ موازٍ يحدّد مسؤوليّات عناصر عسكرية في إيقاع قتلى.
وفي مقابل إعلان أسماء الضحايا الـ7، علم “أساس” أنّ لدى “القوات” نحو 10 جرحى، أحدهم حالته خطرة.
أزمة البيطار
في سياقٍ موازٍ، لم تقُد المساعي المفتوحة في كلّ الاتجاهات إلى إحداث خرق في جدار الأزمة التي تهدّد بإحالة حكومة ميقاتي إلى تقاعد مبكر بتجميد اجتماعاتها ما لم يُنفَّذ شرط حركة أمل وحزب الله بتنحية القاضي البيطار وكشف ملابسات جريمة الطيّونة “ومحاسبة المسؤولين عنها”.
ووفق معلومات “أساس” طَرَح وزير العدل هنري خوري خلال لقاءاته مع الرؤساء الثلاثة ومع رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود ومدعي عام التمييز غسان عويدات ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد اقتراح تأليف لجنة من ثلاثة قضاة على شكل هيئة اتهامية عدلية في التفتيش القضائي تتولّى “التحقيق” في ما نسب من مخالفات للقاضي البيطار أو البتّ بالدعاوى المقدّمة من قبل الفريق المتضرّر من قراراته.
يرى كثيرون أنّ خلاصة لقاء البيطار مع مجلس القضاء الأعلى لن تختلف عن الاجتماع بحضور ميقاتي: لا إمكانية لتدخّل الحكومة ولا صلاحيّة لها بتنحية البيطار
وفيما تستبعد مصادر مطّلعة أن يتمّ الموافقة على الاقتراح من قبل أكثر من طرف، فإن الاجتماع الأول لأعضاء مجلس القضاء الأعلى غدًا بعد ملء الشغور فيه لن يضمّ القاضي البيطار، ويرجّح أن يحصل هذا الاجتماع يوم الخميس المقبل.
وتقول أوساط الفريق المتضرّر من ممارسات البيطار: “هناك اتّهامات صريحة أصلاً للقاضي عبّود بالتنسيق مع المحقّق العدلي، وقد تبدّى هذا الأمر من خلال إحالته طلبات ردّ البيطار إلى رؤساء غرف في التمييز من الطائفة المسيحية حصراً، وتحديداً الغرفة الأولى في محكمة التمييز، برئاسة ناجي عيد، المؤلّفة في سابقة غير مألوفة من ثلاثة قضاة مسيحيين. وثانياً من خلال السرعة غير المسبوقة في بتّ الطلبات، بالإضافة إلى ارتكاب خطأ عدم تبليغ أفرقاء الدعوى بطلبات الردّ، وهذه مخالفة قانونية صريحة”.
في الواقع، لا شيء يُلزم المحقّق العدلي بتلبية الدعوة إلى الاجتماع مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، لكنّه سيحضر أوّل اجتماع للمجلس بعد ملء الشغور فيه.
ومجلس القضاء الأعلى هو مجلس إدارة، لا سلطة ولا صلاحيّات له بإملاء التوجيهات على المحقّق العدلي وتوجيه الملفّ، لكنّ من صلاحيّاته إحالة قضاة على التفتيش القضائي، وهذا الأمر غير وارد في حالة البيطار.
ويرى كثيرون أنّ خلاصة لقاء البيطار مع مجلس القضاء الأعلى لن تختلف عن الاجتماع بحضور ميقاتي: لا إمكانية لتدخّل الحكومة ولا صلاحيّة لها بتنحية البيطار، وهو ما يتوافق عليه عون وميقاتي. ولا يستطيع وزير العدل تعيين محقّق عدلي آخر باقتراح منه طالما البيطار في موقعه. ومجلس القضاء الأعلى ليس بوارد وضع حدّ لنهاية تحقيقات البيطار في قضية المرفأ كونه غير ذي صلاحيّة.
إقرأ أيضاً: هل تنقذ هيئة اتّهاميّة عدليّة استثنائيّة الحكومة؟
ويتحدّث مطّلعون عن حلٍّ وسطٍ يؤدّي في حال السير به إلى إلغاء كلّ الإجراءات التي اتّخذها البيطار بحقّ الرئيس حسان دياب (وسابقاً المحقّق العدلي فادي صوان الذي ادّعى عليه) والوزراء السابقين الأربعة، وذلك بالتسليم بعدم صلاحيّة المحقّق العدلي بملاحقتهم، والأخذ بصلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بالملاحقة والمحاسبة.