يتمسّك حزب العدالة والتنمية التركي بعدم إعطاء أحزاب المعارضة ما تريده في الذهاب المبكر إلى الحلبة الانتخابية لإخراج البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والمعيشية، كما تقول قياداتها. هو لا يثق باستطلاعات الرأي التي تتحدّث يوميّاً عن تراجع أصواته وشعبيّته، ويتّهمها بأنّها مفبركة، لكنّه لا يريد أيضاً اختبار ثقله السياسي والشعبي قبل الموعد الرسمي للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة في منتصف عام 2023.
يردّد إردوغان أنّ “تركيا أثبتت مراراً قدرتها على مقاومة الصدمات والاهتزازات والخضّات، التي تعرّضت لها، من خلال الهيكل الديناميكي لاقتصادها والانضباط الماليّ والتزام قواعد السوق الحرّة. لكنّ الرئيس التركي وحزبه يتابعان عن قرب الأصوات المعارِضة والمنتقِدة
صحيح أنّ كلّ استطلاعات الرأي التركية تشير إلى تقدّم حزب العدالة على بقية الأحزاب بفارق كبير، وهو ما يعطيه حقّ مواصلة تصدّر المشهد السياسي والحزبي، كما هي الحالة في تركيا منذ عقدين. لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ مشكلة الحزب هذه المرّة، وبعكس ما كان يستفيد منه في الأعوام السابقة، هي:
أوّلاً، توحّد أحزاب المعارضة الرئيسية وتزايد شعبيّتها تحت سقف “تكتّل الأمّة” في مواجهة “تحالف الجمهور”، الذي يجمع إلى جانب العدالة حزب “الحركة القومية” اليمينيّ بقيادة دولت بهشلي.
ثانياً، احتمال فقدانه للأكثرية البرلمانية التي تخوّله التفرّد بالسلطة، كما هي الحال اليوم، وعدم حصوله على هذه الأغلبية حتى لو دخل في تفاهم سياسي حزبي جديد مع حليفه القومي الذي يرفده من الخارج منذ 4 سنوات.
فقد نشرت شركة “كوندا” لاستطلاعات الرأي تقريراً مفصّلاً عن بروفايل الناخب التركي وهو يتوجّه إلى الصناديق: 35 في المئة يصوِّتون بدوافع أيديولوجية وحزبية وخلفيّات سياسية، و25 في المئة يصوِّتون حسب شخصيّة الرئيس المرشّح، و20 في المئة لا يعلنون عن خياراتهم قبل التصويت. وحسب استطلاعات عديدة أخرى، يقول الواقع شيئاً آخر: ما سيحسم النتائج هذه المرّة هو نسب الغلاء وأرقام البطالة والأوضاع المعيشية بالدرجة الأولى. ففي استطلاع أجرته شركة “متروبول” تبيّن أنّ حصّة تحالف الجمهور هي 41 في المئة مقابل 49 في المئة لتكتّل أحزاب المعارضة في أيّة انتخابات تجري في هذه الآونة، وأنّ 53.7 في المئة من المستطلَعين يتوقّعون رحيل حزب العدالة عن الحكم. أرقام واستطلاعات تُنشر قبل عام ونصف من الانتخابات، لكنّ ما تقوله لا يمكن تجاهله أو رميه جانباً من قبل الحزب الحاكم.
11 مليون و500 ألف مشترك
يقول الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان إنّ حزبه هو الأكثر شعبيّة في تركيا، والدليل وجود 11 مليون وخمسمئة ألف منتسب إلى الحزب. يتحدّث إردوغان عن الفارق العدديّ بالملايين بين حزبه وأقرب منافس له حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني. قد يكون إردوغان هو المرشّح الأوفر حظّاً للفوز في أيّة انتخابات رئاسية قريبة تشهدها البلاد. لكنّ ما يعيق طريقه هو ضرورة حصوله على النصف زائداً واحداً من مجموع أصوات الناخبين، حسب قانون الانتخابات. وهي أزمة أساسية تقف في طريقه اليوم لا بدّ من تجاوزها بعد الأريحيّة التي وفّرت له الفوز بحوالي 53 في المئة من الأصوات الداعمة قبل 4 أعوام. أرقام آخر انتخابات جرت في عام 2018 تشير إلى مشاركة 86 في المئة ممّن يحقّ لهم التصويت، وهذا رقم قياسي إقليمي ودولي بالمقارنة مع نسب التصويت في دول عديدة. نتائج الانتخابات البرلمانية كانت متقاربة بالنسبة إلى الحكم والمعارضة، فهل تبقى الأمور على ما هي عليه بعد عام ونصف، حين سيتوجّه 62 مليون ناخب إلى الصناديق هذه المرّة؟
مشكلة أحزاب المعارضة هي أنّها تحتاج أيضاً إلى انتزاع ثلثيْ مقاعد البرلمان إذا ما كانت فعلاً راغبة في العودة إلى النظام البرلماني أو الحصول على الأغلبية المطلوبة، أي 360 صوتاً، لحمل الموضوع إلى الاستفتاء الشعبي العامّ، فهل يكون لها ما تريده؟
صحيح أنّ المعارضة التركية عاجزة عن اجتراح المعجزات للفوز في مواجهة إردوغان وحزبه، وهي لا تقدّم الكثير من الخطط الإصلاحية والإنمائية البديلة غير تعهّد العودة إلى النظام البرلماني، والاستفادة من الأزمات التي تعيشها تركيا، لكنّ ما قد يفتح الطريق أمامها لمواصلة صعودها هو مضيّ حزب العدالة في ارتكاب الأخطاء، والفشل في حلّ المشاكل الداخلية والخارجية التي تعصف بالبلاد منذ أعوام.
عندما قرّرت قيادات حزب العدالة عام 2001 الانشقاق عن الأب الروحي نجم الدين أربكان، قالت إنّه لم يعد بإمكانها التحمّل أكثر من ذلك. بعد عقدين من حكم إردوغان ورفاقه، تبرز إلى العلن حقيقة واحدة، وهي أنّه من دون خطوات إصلاحية سياسية دستورية اقتصادية اجتماعية عاجلة تُخرِج البلاد من أزماتها الكثيرة، فإنّ حزب العدالة لن يتمكّن من إقناع الناخب بإعطائه ما يريد.
السيناريو الأصعب في عام 2023 سيكون فوز المعارضة بالأكثرية البرلمانية مقابل انتصار إردوغان في معركة الرئاسة، وعندها ستعود البلاد من جديد إلى خطّ البداية للبحث عن حلّ يُخرِجها من أزمة أخرى هي بغنى عنها
يردّد إردوغان أنّ “تركيا أثبتت مراراً قدرتها على مقاومة الصدمات والاهتزازات والخضّات، التي تعرّضت لها، من خلال الهيكل الديناميكي لاقتصادها والانضباط الماليّ والتزام قواعد السوق الحرّة. لكنّ الرئيس التركي وحزبه يتابعان عن قرب الأصوات المعارِضة والمنتقِدة.
– محمد متينار، مثلاً، إعلامي ونائب سابق في العدالة والتنمية، يقول: “إذا كان من فشلٍ في إدارة ملفّات الاقتصاد، فالمسؤولية تقع على الحزب الحاكم. العودة إلى القواعد الشعبية والإصغاء لما تقوله وتريده هما الخيار الوحيد”.
– فهمي قورور، كاتب إسلامي معارض كان قبل سنوات من أنصار العدالة والتنمية، يقول في آخر كتاباته إنّ “العودة إلى النظام البرلماني هي فرصة العدالة والتنمية الوحيدة، فهل يفعل ذلك؟”.
– طه اقيول، كاتب ليبرالي محافظ معروف كان داعماً كبيراً لحزب العدالة، وانتقل إلى الجناح المعارض، يقول إنّ “ما أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم هو شخصنة السياسات والتفرّد باتّخاذ القرارات بعد عام 2011 في دولة بحجم تركيا، ثمّ جاءت خطوة تغيير شكل النظام إلى ما هو عليه اليوم لتطيح بالكثير من الجهود والخطوات الاستراتيجية التي اعتمدتها قيادات العدالة والتنمية في العقد الأول من حكمها”.
وعد إردوغان بتجديد هيكليّة الحزب وتغيير الكثير من القيادات والقواعد، وفتح الطريق أمام الكوادر الشبابية بعد هزيمة العدالة في الانتخابات البلدية الأخيرة. لكنّ تحليلات وتقديرات موقف كثيرة تقول إنّ إردوغان وحزبه لم ينجحا في وقف النزف الحزبي، وسدّ فجوة الانفجار الذي تعرّض له الحزب قبل 3 أعوام في الانتخابات البلدية، وتجاوز ارتدادات انشقاق قياديين معروفين مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان عن الحزب الأمّ، وتأسيس أحزاب بديلة نجحت حسب شركات استطلاع الرأي في حصد نسبة 7 في المئة من مجموع الأصوات حتى الآن، وهي تأتي في غالبيّتها من قواعد حزب العدالة ومنبع شعبيّته.
يذكِّر الرئيس إردوغان دائماً بإنجازات الحزب، منذ عام 2002 حتى اليوم، ويعلن أنّ “الذين شغلوا تركيا بمشكلاتها الداخلية على مدى القرنين الماضيين، وأبعدوها عن التغيّرات الجذرية، لن ينجحوا في محاولاتهم المتجدّدة… تركيا أثبتت مراراً مقاومتها للصدمات عبر الهيكل الديناميكي لاقتصادها والانضباط الماليّ والتزام قواعد السوق”.
لكنّ قيادات المعارضة في وادٍ آخر:
– رئيسة “حزب ايي” التركي، ميرال أكشينار، تقول إنّ أحدث الدراسات، التي أجراها حزبها، عكست رغبة 64% من الأتراك في ترك النظام الرئاسي، الذي أراده حزب العدالة، والعودة إلى النظام البرلماني. وأضافت: “20 في المئة من ناخبي العدالة والتنمية، الذين صوّتوا لمصلحة الاستفتاء الدستوري قبل 4 سنوات، يعبِّرون حالياً عن رغبتهم في الانتقال إلى نظام برلماني عصري قوي. وهذا هو المخرج لتركيا ولإردوغان”. وأكشينار هي سياسيّة مخضرمة أسّست قبل أعوام حزبها، الذي تعطيه استطلاعات الرأي اليوم حوالي 12 في المئة من أصوات الناخبين في أدنى حدّ. وهي التي قالت إنّها “ليست مرشّحة لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، بل لمنصب رئاسة الوزراء الواجب إعادته إلى حالته السابقة في إطار نظام برلماني تركي جديد”.
يقول إردوغان أمام كتلته البرلمانية: “إذا تمكّنّا من التوفيق بين استعداداتنا الخاصة والمقترحات الدستورية للأحزاب الأخرى، فيمكننا الانتهاء من إعداد مسوّدة دستور جديد داخل البرلمان قبل نهاية العام التشريعي”. تقول أحزاب المعارضة بالمقابل إنّ “التفاهمات تسير نحو التوصّل إلى اتفاق على خريطة طريق في ما يتعلّق بالمبادئ الأساسية للنظام البرلماني الجديد. يجب أن يكون الرئيس محايداً غير منتسب إلى أيّ حزب سياسي، بالإضافة إلى تقييد صلاحيّاته لمصلحة تعزيز سلطة البرلمان”.
الجديد هذه المرّة كان تحذيرات زعيم المعارضة كمال كيليشدار أوغلو من تصفيات سياسية قد تقع في البلاد لخلق حالة من التوتّر والبلبلة. يكرّر كيليشدار أوغلو باستمرار أنّ “سياسة توتير الأجواء داخل تركيا وخارجها، وإبقاء حالة الاحتقان والتصعيد الأمني والسياسي، والبحث الدائم عن الأعداء الذين يهدّدون تركيا ويتآمرون عليها، ليست في مصلحة أحد. توجد الحلول الديموقراطية الواجب اعتمادها في مثل هذه الحالات”.
استطلاعات مفاجئة
“أورك” هي شركة استطلاعات رأي معروف عنها وقوفها إلى جانب حزب العدالة. لم يُعجِب استطلاعها المنشور قبل أيام قيادات الحزب الحاكم، لأنّها طرحت اسم وزير الدفاع التركي خلوصي أكار باعتباره المرشّح الأقوى في أيّة انتخابات رئاسية لا يشارك فيها إردوغان. أكار رجل عسكري جاء إلى منصبه من خارج حزب العدالة، وربّما تكون هذه هي النقطة الأساسية التي أغضبت قيادات الحزب، وهي أن تُسلَّم رئاسة البلاد ورئاسة الحزب على السواء إلى شخصية لا علاقة لها بالحزب، فتنسف كلّ حساباته التي أعدّ لها منذ 5 سنوات، وهو ما يفتح الطريق أيضاً أمام أكثر من نقاش حزبي وسياسي داخل العدالة والتنمية نفسه.
كانت قيادات حزب العدالة تردّد قبل أعوام، وهي تروِّج لمشروع النظام الرئاسي، أنّه سيحمل فرصة الاستقرار السياسي والحزبي والحكومي في البلاد، وتشكيل حكومات قوية ومتجانسة، وإمكانية الاعتماد على التكنوقراط وغير الحزبيين، إضافة إلى تمكين البرلمان من تفعيل عمله الرقابي. لكنّ الذي تقوله قيادات المعارضة اليوم هو أنّ حصيلة 3 سنوات من الاختبار لهذا النظام الجديد هي دفع البلاد نحو جمع السلطات بيد الرئيس، ومنحه صلاحيّات أوسع في التعيينات والإقالات، والتدخّل في عمل أكثر من مؤسسة رسمية، بينها القضاء.
لا تناقش تقارير وتحليلات كثيرة عن مسار الأمور في تركيا في المرحلة المقبلة قدرة حزب العدالة والتنمية على البقاء على رأس السلطة فقط، بل وسيناريوهات تفكّك الحزب وتشرذمه. لذلك نرى أنّ السبب الأساسي، الذي يمنع إردوغان من الذهاب وراء قرار الانتخابات المبكرة، هو محاولة لملمة ما تبعثر سياسياً واقتصادياً ومعيشياً في السنوات الأخيرة لإنقاذ حزبه من هذه السيناريوهات السوداوية. لكنّ حقيقة أخرى تقول إنّ حزب العدالة هو اليوم في “بيت اليك” السياسي، والوقت يضيق وخياراته تتقلّص أمام ضرورات التحرّك على أكثر من جبهة سياسية واقتصادية ومعيشية ودستورية لإنقاذ الموقف. من أين سيبدأ وكيف سيتصرّف؟
لا انتخابات تركية مبكرة، ربّما لأنّ تحالف الجمهور لا يريد ذلك، لكنّ ارتدادات الأزمات الكثيرة التي تنتظر الحلول ستكون موجعة بعد عام ونصف عند مثول الناخب أمام الصناديق إذا لم يقدِّم حزب العدالة ما يُقنِع قواعده بمواصلة دعمه.
المواجهة في عام 2023 ستكون في العلن بين ذهنيّتيْن وأسلوبين وهدفين: أنصار النظام الرئاسي وبقائه من جهة، والداعمين لتغيير شكل النظام والعودة إلى النظام البرلماني من جهة أخرى. لكنّ ما سيحسم النتائج قبل غيره من العوامل هو الأزمات الاقتصادية والمعيشية وأرقام الغلاء والبطالة وتراجع القيمة الشرائية للّيرة التركية.
إقرأ أيضاً: إردوغان.. رجل تركيا المريض
السيناريو الأصعب في عام 2023 سيكون فوز المعارضة بالأكثرية البرلمانية مقابل انتصار إردوغان في معركة الرئاسة، وعندها ستعود البلاد من جديد إلى خطّ البداية للبحث عن حلّ يُخرِجها من أزمة أخرى هي بغنى عنها.