بين مكتب القاضي طارق البيطار ومجلس الوزراء في بعبدا انفجر أمس “اللغم” الذي زرعه المحقّق العدلي بنفسه حين ارتضى مسارًا انقلابيًا للتحقيق في قضية المرفأ أطاح معه حقوق المتظلمين من أدائه في الدفاع عن أنفسهم والردّ بالقانون على ادّعاءته الاستنسابية.
فجلسة مجلس الوزراء التي كانت مخصّصة لعرض وزراء حكومة نجيب ميقاتي لمشاريع وزاراتهم تحوّلت إلى كرة نار هدّد خلالها سبعة وزراء محسوبين على محور الثنائي الشيعي، ومعهم وزيري تيار المردة، بمغادرة الجلسة في حال لم تتّخذ الحكومة موقفًا واضحًا من “القرارات التعسفية وغير القانونية التي يتّخذها البيطار”. وقد تجنّبت الحكومة قطوعًا كبيرًا تأجلت فصوله إلى اليوم تحت عنوان “أمًا يطير البيطار أو تطير الحكومة”!!
كانت حالة فنيانوس قد قدّمت نموذجاً عن مصير مذكّرات توقيف كهذه، خصوصاً بعد الكلام العالي السقف من قبل الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله،والذي عُدّ “إنذاراً أخيراً” للقاضي “غير المرغوب” فيه بعد الآن على رأس التحقيق العدلي في قضية المرفأ، إذ قال بالحرف الواحد: “الأمور ما فيها تكفّي هيك”
فبعد الوزير السابق يوسف فنيانوس أصدَرَ البيطار مذكّرة توقيف غيابيّة، هي الثانية بحقّ النائب علي حسن خليل بعد تخلّفه عن المثول أمام المحقّق العدلي.
فَعَلها القاضي “المستقوي” بعدما تهرّب صباح أمس، في سابقة خطيرة، من تبلّغ دعوى الردّ بحقّه من النائبين خليل وغازي زعيتر.
وبعدما قام بالمطلوب بإصدار مذكّرة التوقيف، “أتاح لنفسه” تبلّغ الدعوى عبر قلم الرئيس الأول في محكمة التمييز، وهو ما أدّى إلى كفّ يده مؤقّتاً عن ملفّ التحقيق في قضية انفجار المرفأ. هذا الواقع المستجدّ أدّى إلى إلغاء الجلسات المحدّدة للمدّعى عليهم، أقلّه ليومين، إلى حين بتّ الدعوى من قبل الغرفة الأولى في محكمة التمييز المدنية.
وفتحت مذكّرة التوقيف الغيابية الثانية الباب على مصراعيه للسؤال عن مصير التحقيق والجهاز الأمني الذي سينفّذ مذكّرة التوقيف في ظلّ تسليم كثيرين بأنّ “مذكّرة التوقيف تطول، بالمعنى السياسي، الرئيس نبيه برّي نفسه وفريقاً سياسيّاً بكامله قبل علي حسن خليل”.
وقد حدّد البيطار نوع الجرم المنسوب إلى خليل وماهيّته: “القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي”.
وجاء في المذكّرة أنّ “كلّ مأمور قوّة مسلّحة مكلّف بتوقيف الشخص المدرجة هويّته وسوقه بلا إبطاء إلى دائرة السجن المتوفّر. ويمكن عند الاقتضاء الاستعانة بالقوّة المسلّحة الموجودة في الموقع الأقرب لمحلّ إنفاذ هذه المذكّرة التي هي نافذة في جميع الأراضي اللبنانية، وعلى قائد هذا الموقع استجابة الطلب عملاً بأحكام المادّتين 107 و109 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. وعلى مَن ينفّذ المذكّرة إحضار الموقوف بمهلة أقصاها 24 ساعة إلى جانب النائب العامّ المختصّ تحت طائلة المسؤوليّة”.
بعد الوزير السابق يوسف فنيانوس أصدَرَ البيطار مذكّرة توقيف غيابيّة، هي الثانية بحقّ النائب علي حسن خليل بعد تخلّفه عن المثول أمام المحقّق العدلي
وفي بلد التوازنات الطائفية والسياسية القابلة للاشتعال في أيّ لحظة، يصعب توقّع تنفيذ مذكّرة التوقيف الغيابية من جانب قوى الأمن الداخلي أو الجيش أو أمن الدولة، فيما فنيانوس وخليل ليسا مجهوليْ الإقامة، وغير متواريَيْن عن الأنظار، ويمكن رصدهما بسهولة في منازلهما أو في أماكن عامة!
وكانت حالة فنيانوس قد قدّمت نموذجاً عن مصير مذكّرات توقيف كهذه، خصوصاً بعد الكلام العالي السقف من قبل الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله،والذي عُدّ “إنذاراً أخيراً” للقاضي “غير المرغوب” فيه بعد الآن على رأس التحقيق العدلي في قضية المرفأ، إذ قال بالحرف الواحد: “الأمور ما فيها تكفّي هيك”.
وبعد وضع السيد حسن نصرالله الكرة في ملعب مجلس الوزراء انتقلت المواجهة إلى طاولة الحكومة في بعبدا. فيما النداء الذي وجّهه إلى مجلس القضاء الأعلى بدا في غير محلّه كون الأخير خارج الخدمة أصلاً بسبب الشغور فيه، وصلاحيّته تقتصر على الموافقة أو رفض الاسم المقترح من قبل وزير العدل لتعيين أيّ قاضٍ محقّقاً عدليّاً. وبالتالي لا سلطة لديه لردّه أو تنحيته وتعيين قاضٍ آخر مكانه إلا عبر وزير العدل بعد ردّ القاضي بقرار قضائي، وهو الأمر غير المتوافر حتّى الآن.
وخلال جلسة مجلس الوزراء أمس، طلب وزراء حزب الله وحركة أمل وتيار المردة اتّخاذ موقف وصولاً إلى إقالة البيطار، بعدما قدّم وزير الثقافة محمد مرتضى مطالعة حول “تسييس التحقيق”. فكانت هناك أجوبة حول عدم إمكانية إقالته كونه معيّن بحسب المادة 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ على أنّه “يتولّى التحقيق قاضٍ يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى”. فطالب وزير العمل باتخاذ موقف يدين البيطار و احتدم النقاش إلى حدّ المطالبة بإقالة مجلس القضاء الأعلى. و انتهى الأمر بناء على اقتراح وزير العدل بتأجيل الجلسة إلى اليوم.
وتوقّعت مصادر وزارية لـ”أساس” أن يصدر اليوم موقف عن مجلس الوزراء يدين البيطار، فيما يتوجه رئيس الحكومة إلى حلّ وسط ينصّ فقط على تضمين البيان كلاماً عن “ضرورة اعتماد الشفافية في التحقيق وعدم الاستنسابية”، لكنّه أيضاً يرغب بالتشاور مع المجلس الشرعي الإسلامي.
في هذه الأثناء يتحضر حزب الله وحركة أمل لتحرّك في الشارع أمام قصر العدل لم يتحدّد موعده بعد، لكنّه سيكون قبل يوم الجمعة. ويجري الرئيس برّي اتصالاتٍ مع رؤساء الحكومات السابقين ومع مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان.
بين مكتب القاضي طارق البيطار ومجلس الوزراء في بعبدا انفجر أمس “اللغم” الذي زرعه المحقّق العدلي بنفسه حين ارتضى مسارًا انقلابيًا للتحقيق في قضية المرفأ أطاح معه حقوق المتظلمين من أدائه في الدفاع عن أنفسهم والردّ بالقانون على ادّعاءته الاستنسابية
لا إذن بملاحقة إبراهيم وصليبا
تزامنت تطوّرات الكباش بين القاضي البيطار والمدّعى عليهم مع رفض وزير الداخلية بسام المولوي مجدّداً إعطاء الإذن بملاحقة المدير العامّ للأمن العامّ اللواء عباس إبراهيم، مؤكّداً “عدم وجود أيّ معطيات موضوعية تبيّن تبدُّلها بين الطلب المقدَّم في عهد وزير الداخلية السابق محمد فهمي وبين الطلب الثاني”.
واجتمع أمس المجلس الأعلى للدفاع ورفض إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة للأسباب القانونية نفسها التي استند إليها برفض إعطاء الإذن سابقاً.
دخل عمليّاً ملفّ التحقيق في قضية المرفأ مرحلة شديدة الحساسيّة والتعقيد في ظلّ رأيَيْن قضائي وسياسي يعتبران أنّ استمرار البيطار في موقعه يشكّل خطراً على التحقيق نفسه وعلى الغاية المرجوّة بتحقيق العدالة في إحدى أكثر الجرائم إيلاماً بالنسبة إلى اللبنانيّين بعد انتهاء الحرب الأهليّة.
“إمبراطور” قصر العدل
هو واقع يصطدم حتّى الآن بحاجز استنفاد كلّ السبل القانونية لردّ القاضي ونقل ملفّ الدعوى إلى قاضٍ آخر، فتحوّل القاضي طارق البيطار إلى “قاضٍ فوق القضاء” في قصر العدل يُخطئ ولا يُحاسَب، يتجنّى ولا يُساءَل.
ويوم العدليّة أمس لم يكن عاديّاً. بدأ صباحاً بإحالة الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي سهيل عبود على الغرفة الأولى لمحكمة التمييز المدنية برئاسة القاضي ناجي عيد الطلب المُكرّر المقدّم من النائبين خليل وزعيتر لردّ البيطار.
وأتى ذلك بعد ردّ محكمة التمييز يوم الاثنين طلب الردّ المقدّم منهما، والذي سَبَقه ردّ محكمة الاستئناف طلب الردّ المقدّم من خليل وزعيتر والنائب نهاد المشنوق.
وقد سارع خليل وزعيتر إلى تقديم الدعوى نفسها أمام المحكمة نفسها استناداً إلى ما وصفته مصادر قضائية بارزة بـ”الخطأ الفاضح” الذي ارتكبته محكمة التمييز برئاسة القاضية جانيت حنّا بعد أسبوع من خطأ محكمة الاستئناف برئاسة القاضي نسيب إيليا.
فمحكمة الاستئناف في بيروت فَصَلت في طلبات الردّ “لعدم الاختصاص النوعي” قبل أن تبلّغ الخصوم، ومنهم القاضي المعنيّ، في مخالفة صريحة للمادة الـ126 من قانون أصول المحاكمات المدنية، و”على كعبها” ردّت محكمة التمييز طلب ردّ القاضي البيطار بسرعة قياسية قبل يوم واحد من جلسة استجواب المدّعى عليه النائب خليل، معتبرةً أنّها ليست صاحبة اختصاص بوضع يدها على طلب الردّ بصورة قانونية، وذلك قبل تبليغ الخصوم أيضاً في سياق المخالفة نفسها التي ارتكبتها محكمة الاستئناف استناداً إلى واقع أنّ “البيطار ليس من قضاة محكمة التمييز”.
سبع دعاوى في سجلّ البيطار
تخبيصٌ قضائي بات يُشرِّع الأبواب أمام كلّ الهواجس، ومن بينها التسليم بوجود مخطّط سياسي يتلطّى خلف تحقيقات المرفأ.
لقد بات اليوم في “سجلّ” المحقّق العدلي منذ تسلّمه مهامّه في 19 شباط الماضي سبع دعاوى: بين دعاوى ردّ لعدم الاختصاص، والارتياب المشروع، وتزوير جنائي.
وبات البيطار مُحاصَراً بجملة وقائع من الصعب تجاوزها:
– وجود ملفّ للوزراء السابقين الأربعة المدّعى عليهم في القضية بعهدة مجلس النواب بالتوازي مع اعتبار البيطار نفسه صاحب صلاحيّة بالملاحقة. وهؤلاء لجأوا إلى المحاكم الأرفع في القضاء التي قالت لهم ما مفاده أن “لا سلطة لي على المحقّق العدلي”.
إقرأ أيضاً: قاضٍ فوق القضاء!
– الدراسة القانونية للبروفسور دومينيك روسّو، أستاذ الحقوق الدستورية في كليّة الحقوق بجامعة السوربون، التي تُلخَّص بتجاوز البيطار للدستور وانتهاكه مبدأ فصل السلطات، الأمر الذي يقتضي محاكمة المسؤولين السياسيين أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وليس المحاكم العاديّة. ولأنّ “الإخلال الوظيفي المنسوب إلى النائب نهاد المشنوق، طالب الدراسة، مرتبط مباشرة بممارسة وظيفته كوزير للداخلية، وليس بشخصه الخاصّ”.
– إصرار البيطار على اعتبار نفسه المرجع الصالح للملاحقة سيؤدّي إلى مشهد غير مسبوق في تاريخ القضاء، إذا لم تُكفّ يد القاضي، يتمّ التوصّل فيه إلى قرارين في شأن ملفّ المرفأ ربطاً بالاتّهامات الموجّهة إلى الوزراء السابقين: واحد صادر عن مجلس النواب، عبر المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وآخر عن المجلس العدلي.
أمّا محاكم الاستئناف والتمييز فبدت كـ”الدرع الواقي” الذي يؤسِّس لحالة غير مسبوقة قضائياً “تُفتي” باستحالة ردّ قاضٍ وبإعطائه حصانات لا يتمتّع بها حتّى رئيس مجلس القضاء الأعلى، أعلى قاضٍ رتبةً في الجمهورية.