جيلنا الذي سُمِّي بـ”جيل النكبة” لتزامن مولده مع مولدها، قُدِّر له أن يعيش معظم فصولها وما كانت تُنتِج من حروب واضطرابات امتلأت بتواريخها روزنامة القرنين العشرين والحادي والعشرين.
عايش جيلنا الحروب على مختلف أحجامها وعناوينها، وسلسلة المشاريع لحلّها، وكانت النتيجة ذوبان كلّ هذه المشاريع بفعل رفضها من جانب الفلسطينيين أساساً لكونها لا تلبّي ما كانوا يرونه حقوقاً مصادَرة أو حسب التعبير الدارج في حينه مغتصَبة.
أُمّ الكوارث، ونحن في العام الثامن والعشرين من عمر التجربة، أنّ سقوط مرحلة أوسلو لم يُعترَف به من جانب الطبقة السياسية الفلسطينية التي لا تزال تعيش على ركامها. أمّا إسرائيل فتعترف بما لها فيه وتلغي ما عليها منه. وقد تبقى هذه الحال إلى أجل غير مسمّى، ولا يعلم غير الله كم من السنين ستمرّ حتى نرى بديلاً عن أوسلو
وكان أن التزم زعماء البدايات، ولنقل فترة قرار التقسيم، بمعادلة أو شعار أو مبدأ “إمّا كلّ شيء أو لا شيء”.
غير أنّ الرفض الفلسطيني كان يُستغلّ بدهاء من قبل الإسرائيليين، إذ كانوا يحصلون على نتيجة مزدوجة: حرمان الفلسطينيين من مزايا الحلول، وتحميلهم مسؤولية إضاعة الفرص، مع تمكين الإسرائيليين من مواصلة تنفيذ مشروعهم الأساسي الهادف إلى السيطرة على كلّ ما للفلسطينيين. وهذا المشروع لا يزال يعمل.
المرحلة الممتدّة على مدى السنوات الثماني والعشرين الماضية، التي سُمّيَت بـ”مرحلة أوسلو”، أو كما سُمّيت في البدايات المتفائلة بـ”مشروع المصالحة التاريخية”، تحتاج الى دراسة متجرّدة من الرغبات والأهواء وبعيدة عن الأبيض والأسود والإدانة والتبرير. فهذا النهج الذي لا يزال معمولاً به عندنا لن يوصلنا إلا إلى الغرق في سجال لا ينتهي.. الـ”مع” يبرّر ما فعل بمنطق أنّه لم يكن أمامنا من خيارات سوى المجازفة بدخول التجربة، والـ”ضدّ” ينسب كلّ الكوارث والانهيارات إلى مَن فعل، ويضيف: “لو استمعتم إلى رأينا لَما حدث ما حدث”.
تجسِّد أوسلو، إلى جانب كونها حدثاً سياسيّاً مفصليّاً، له ما قبله وما بعده، حالةً دراميةً مكتملة العناصر والشروط، فيها بدايات ذات مفعول سحري جعلت الفلسطينيين، الذين وقفوا على حافة اليأس، يأملون بمسار يوفّر لهم رزمة من المزايا، وسوّقوا لأنفسهم بأنّ الخراب الذي أنتجه الاحتلال سوف يُعوّض بسنغافورة جديدة، وأنّ قسوة القمع والقتل ستُعوّض بولادة جمهورية سعيدة… وبعد خمس سنوات ستمرّ كلمح البصر ستكون العذابات من الماضي.
كان التفاؤل في البدايات مبرَّراً بما يكفي ويزيد. ففي إسرائيل حكومة تقودها حمامتا السلام، إسحاق رابين وشيمون بيريز، وفي أميركا إدارة تُلقي بكلّ ثقلها وراء المشروع التاريخي، وأوروبا تخصّص أموالاً طائلة للإنفاق على المحاولة الجدّيّة، وأمّا روسيا، التي كانت تحاول التعافي من عزلة الحرب الباردة، فكانت المقاول الذي يُقنِع الفلسطينيين بمزيد من المرونة.
كلّ مشجّعات البدايات كانت تقود إلى يقين باستحالة الفشل. لم يُنتبَه بالقدر الكافي إلى وجود قوى فعّالة على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تهيّء نفسها للانقضاض مع أوّل سانحة. كان سدنة المشروع، إسحاق رابين وشيمون بيريز، مطمئنّين إلى أنّ مرور مشروعهم بأغلبية صوت واحد في الكنيست لا بدّ أن يحظى بعد نجاح عملية السلام بأغلبية أوسع. أمّا الفلسطينيون الذين انفتحت شهيّتهم على نموذج سنغافورة، فلم ينتبهوا بما يكفي إلى أنّ الخصوم الجذريّين للفكرة يتنامون وتتضاعف قواهم.
وبفعل إخفاقات ظهرت في سياق تنفيذ المشروع، توفّرت للقوى المناوئة على الجانبين حيثيّات مقنعة للانقضاض عليه. كان المفصل على الجانب الإسرائيلي في هذا السياق هو إعدام إسحق رابين (اغتيالاً)، الذي أخرج حزبه واتّجاهه تدريجياً من معادلة التأثير في إسرائيل. في ذلك اليوم كانت النهاية قد تقرّرت. أمّا على الجانب الفلسطيني فكان أهل أوسلو مطمئنّين إلى أنّ كلّ عوامل النجاح التي تجمّعت في البداية تكفي لإبعاد خطر الانهيار، إضافة إلى أنّهم كانوا أكثر اطمئناناً إلى ثابتةٍ مفادها أنّ فتح هي فلسطين، وفلسطين هي فتح، وياسر عرفات سيّد الاثنتين. وفي حالات كثيرة يكون الاطمئنان إلى ثبات المكانة أهمّ عامل لتقويضها. وهذا ما حدث حين تسلّلت حركة “حماس” إلى بناء أوسلو من الباب الخلفيّ وفعلت ما فعلت.
إقرأ أيضاً: هل انتهت اتفاقية أوسلو؟
انتهى المشروع “التاريخي” إلى مآل مناقض لرهانات البداية، وذابت فاعلية القوى الدولية التي أنتجته كذوبان الملح في الماء.
أُمّ الكوارث، ونحن في العام الثامن والعشرين من عمر التجربة، أنّ سقوط مرحلة أوسلو لم يُعترَف به من جانب الطبقة السياسية الفلسطينية التي لا تزال تعيش على ركامها. أمّا إسرائيل فتعترف بما لها فيه وتلغي ما عليها منه. وقد تبقى هذه الحال إلى أجل غير مسمّى، ولا يعلم غير الله كم من السنين ستمرّ حتى نرى بديلاً عن أوسلو.
* كاتب وسياسي فلسطيني، ومستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس لشؤون الثقافة والإعلام، وعضو اتّحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين.