حدثٌ لافتٌ تبع إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن اتّفاق شراكة جديد أُبرِم بهدف تعزيز التعاون العسكري والدفاعي في المحيطين الهندي والهادئ، ومواجهة النفوذ الصينيّ. الحدثُ هو أنّ الصين تعتمد سياسة غريبة، حيثُ تقدّمت بطلب رسمي للانضمام إلى اتفاقيّة الشراكة الشاملة والتقدّمية عبر المحيط الهادئ، التي تشكّل نسبة كبيرة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، وتتألّف من 12 دولة، وتعدّ من أكبر وأهمّ الاتفاقيّات التجارية في العالم التي كانت واشنطن من مؤسّسيها، قبل ابتعاد رؤسائها عنها. وكان الهدف من إنشائها والتوقيع عليها عام 2018 هو مجابهة نفوذ الصين المتنامي أيضاً.
بحسب تقديرات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فقد كان الدخل القومي للولايات المتحدة مع هذه الشراكة سينمو بنحو 130 مليار دولار سنويّاً بحلول عام 2030
ما هي هذه الاتّفاقيّة؟
أوضح الكاتب توماس فريدمان في مقالٍ نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ هذه الاتفاقيّة تُعتبر من أبرز الاتفاقيّات المتعدّدة الأطراف التي جرى التفاوض عليها بين دول عدّة، وتضمّنت قيوداً على الشركات الأجنبيّة وتفاصيل حماية الملكية الفكرية لأحدث المنتجات التكنولوجية الأميركية كالوصول المجّاني إلى خدمات الحوسبة السحابية، التي تضع لها الصين قيوداً. وتنصّ الاتّفاقيّة على بنود مرتبطة بمكافحة الاتّجار بالبشر وبالحيوانات البريّة المهدّدة بالانقراض، إضافةً إلى الطلب من الدول الموقِّعة أن تسمح للعمّال بتشكيل نقابات مستقلّة ومواجهة عمالة الأطفال.
وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما هو مَن بادر إلى عقد هذه الاتفاقيّة بعد مفاوضات استمرّت لسنوات مع الدول المطلّة على المحيط الهادئ، والتي تشكّل 40% من الناتج الإجمالي العالمي، أي أقلّ من نصف الاقتصاد العالمي. والدول التي اجتمعت معاً كانت الولايات المتحدة وأستراليا وكندا واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتنام وتشيلي وبروناي. إلا أنّ ترامب سارعَ إلى الانسحاب من الاتفاق في مطلع عام 2017، ورأى أنّه “ينتهك مصالح العمّال الأميركيين”.
وذكّر فريدمان بإحدى الرحلات التي قامت بها وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون إلى أستراليا، وقالت حينها إنّ “اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ تُحدّد المعيار الأساسي للاتّفاقيّات التجارية ولفتح تجارة حرّة وشفّافة وعادلة”. لكنّ اللافت كان ابتعاد كلينتون، التي ترشّحت في السباق الرئاسي ضدّ ترامب، عن الاتفاقيّة، بدلاً من أن توضح كيف تدخل بضائع كثيرة من الشركاء المحتملين معفاةً من الرسوم الجمركية، فيما تدفع الولايات المتّحدة تعريفات كثيرة، وكان من الممكن أن تحول الاتفاقيّة دون تكبّد الجانب الأميركي للمبالغ المرتفعة.
وبحسب تقديرات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فقد كان الدخل القومي للولايات المتحدة مع هذه الشراكة سينمو بنحو 130 مليار دولار سنويّاً بحلول عام 2030.
الصين تُلاعب أميركا
وعلى الرغم من أنّ قبول الصين غير متوقّع على المدى القريب، ولا سيّما أنّه يحتاج إلى موافقة جميع الأعضاء، فإنّ بكين تسعى إلى تعزيز دورها الريادي في التجارة العالمية، مع زيادة الضغط على الولايات المتحدة. ويسخر فريدمان من قرار الصين الانضمام إلى الاتفاق الذي أُسِّس من أجل مواجهتها، قائلاً: “مَن يعتبر أنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ لا يتمتّع بروح الدعابة فهو غير متابع لأخبار المحيط الهادئ في الفترة الأخيرة”.
وشبّه فريدمان طلب بكين الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ بطلب واشنطن، على سبيل المثال، أن تكون عضواً في مبادرة “الحزام والطريق” في آسيا. ورأى أنّ حيلة الصين تكشف الستار عن ضعف في سياسة أميركا الخارجية تجاه الصين التي تنافسها في وضع قواعد النظام الدولي، في الوقت الراهن، في مجال التجارة وفي الدبلوماسية أيضاً.
المؤسف هو أنّ حلفاء أميركا قدّموا تنازلات تجارية للولايات المتحدة بهدف إبرام الاتفاقية، وكانوا يريدون ثقلاً اقتصادياً يوازي الهيمنة الصينيّة في المنطقة. لكن ماذا حدث الآن؟ الجواب هو أنّ الصين تريد أن تحلّ مكان الولايات المتحدة وبشروطها
استناداً إلى ما تقدّم، تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية تتعدّى احتواء الصين بغوّاصات، في إشارة إلى الاتفاق الأخير مع بريطانيا وأستراليا. وما تحتاج إليه بالفعل يكمن في وضع خطّة لتغيير سلوك الصين، وهو ما كان هدفاً جزئيّاً من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ.
بالعودة إلى إدارة أوباما التي صمّمت الاتفاقيّة، فإنّها لم تستبعد بكين رسمياً من الشراكة، لكنّ الرسالة الأميركية كانت واضحة ومفادها أنّ “الانضمام إلى الاتفاق الذي صاغته الولايات المتحدة يشترط الالتزام بالقواعد الأميركية”، ولهذا رأى الإصلاحيّون في الصين أنّ الاتفاقيّة بمنزلة رافعة لانفتاح النظام الصيني، فيما خشيَ المتشدّدون منه أكثر من قلقهم من الغوّاصات.
بعد صفقة الغواصات، أصبح التفكير لدى الصينيين على الشكل التالي: “لقد صمّم الأميركيون اتفاقيّة تجاريّة لإبعادنا، ثمّ ابتعدوا هم عنها فيما وقّع الحلفاء عليها، لذا فلندخل بشروطنا بدلاً من شروط أميركا ونستغلّ جاذبيّة سوقنا العملاق.. وهل من طريقة أفضل لمواجهة صفقة الغواصات الأميركية مع أستراليا؟”.
ولفت الكاتب إلى أنّ رفض ترامب للاتفاقيّة سببه الرئيسي أنّ أوباما هو مَن خاضَ المفاوضات للتوصّل إليها، وعندما سُئل عنها للمرّة الأولى، قال إنّ الصين كانت موجودة فيها منذ البداية، ولم يكن هذا الأمر صحيحاً. وأضاف ترامب: “إنّه اتّفاق صُمِّم لكي تدخله الصين من الباب الخلفي كما تفعل دائماً وتستفيد من الجميع”. “نعم لقد سبقَ ترامب عصره”، يقول فريدمان.
المؤسف هو أنّ حلفاء أميركا قدّموا تنازلات تجارية للولايات المتحدة بهدف إبرام الاتفاقية، وكانوا يريدون ثقلاً اقتصادياً يوازي الهيمنة الصينيّة في المنطقة. لكن ماذا حدث الآن؟ الجواب هو أنّ الصين تريد أن تحلّ مكان الولايات المتحدة وبشروطها.
إقرأ أيضاً: أميركا في لبنان: عاجزة بلا السعوديّة… وبداية خلاف مع فرنسا
ورأى الكاتب أنّه لم يفُت الأوان بعد لتعود الولايات المتحدة إلى تلك الشراكة عبر المحيط الهادئ وتعزيز قوّتها. إذ سيضمن ذلك أنّه إذا تمّ قبول عضويّة الصين، فلن تتمكّن من الالتفاف على التعريفات الأميركية المفروضة على بعض الصادرات الصينية عن طريق نقل الموادّ وتجميعها في فيتنام مثلاً. واعتبر فريدمان أنّه إذا بقيت الولايات المتحدة بعيدة، فمن الممكن أن تتحوّل الاتفاقيّة إلى “شراكة الشعب الصيني عبر المحيط الهادئ”.