سقوط العاصمة الأفغانية كابول بيد حركة طالبان، الذي رافقه إذلال الولايات المتحدة الأميركية لحظة خروج قواتها، سيكون شبيهاً جداً بلحظة سقوط جدار برلين. لكن هذه المرّة لم ينتصر “الخير” الغربي في مقابل “الشرّ” السوفياتي. بل انتصر التشدّد الإسلامي على 20 عاماً وتريليون دولار من المحاولات الأميركية لإدخال أفغانستان في “الزمن الأميركي”، أو لإدخال الحداثة الغربية إلى شوارع طالبان وصالونات عائلاتها.
المقارنة ممكنة. الحدثان وقعا داخل بلد واحد، في 1990 بين “برلينَيْن”، واحدة شيوعية وأخرى رأسمالية في نهاية القرن العشرين، وفي 2021 بين “كابولَيْن”، واحدة أميركية في بداية آب، وأخرى إسلامية متشدّدة في بداية أيلول الجاري.
أمّا المنتصرون اليوم في كابول فيعبّرون عن “المكوّن” الأفغاني، عن “أهل الأرض”، الذين سكنوا جبالها طويلاً بانتظار العودة إلى المدن والعاصمة. وسقطت “المحاولة الغربية” لتحديث أفغانستان، وتحويلها إلى “واحة ديموقراطية”، حيث يمكن للنساء أن يتعلّمنَ ويخلعنَ الحجاب، وحيث الرسم والموسيقى والأغاني ممكنة، والانتخابات ضرورة، والحداثة الغربية بديهية.
الأكيد أنّ الغرب ما عاد مهتمّاً بمَن يعيش ومَن يموت ومَن يقتل مَن، من كابول إلى بيروت. المجدُ سيكون فعلاً لكواتم الصوت. وعلينا أن نتدبّر شؤوننا بأنفسنا
وكما “رحل” المشهد السوفياتي من قلب أوروبا، ها هو المشهد الأميركي يرحل من قلب الشرق الأوسط، ويحلّ محلّه “المكوّن المسلّح”، و”أهل البلاد”، أو القابضون على عقول أهلها، بالتشدّد الديني وبالحديد والنار. وربّما يصحّ هنا الاستشهاد بقول المفكّر ووزير الثقافة اللبناني السابق، الدكتور غسان سلامة، في حديث لجريدة “الأخبار” (نُشِر الأربعاء 1 أيلول الجاري)، إنّ “الرجل الأبيض كان في مطلع القرن العشرين يمثّل 28 في المئة من البشرية، وحوالى 80 في المئة من السيطرة على أراضي العالم، من أستراليا إلى كندا، مروراً بكلّ المستعمرات. انتهى القرن العشرون، وانحدر الرجل الأبيض من 28 في المئة إلى 17 في المئة اليوم، وانحدرت سيطرته على مختلف أصقاع العالم من 80 إلى 30 في المئة”.
ربّما تنفع هذه الأرقام في ربط الحدث “الكابوليّ” بمسار تاريخي. تماماً كما ارتبط الحدث “البرلينيّ” بتغييرات كبيرة رافقته ولحقت به، في أوروبا وحول العالم.
هذه المرّة سيمرّ وقت طويل قبل أن نفهم ما الذي جرى في أفغانستان، وكيف سندفع الثمن، على ما كتب الأستاذ عماد الدين أديب في “أساس” (الأحد 29 آب الماضي). ولن يكون سهلاً أن نفهم كيف سيطولنا الحدث الطالبانيّ. لكن بالطبع سيدفع باتجاه إعادة صياغة مواقف العديد من اللبنانيين، واستطراداً القوى السياسية، مهما كان حجمها، من أميركا، ومن التحالف معها، ومن المراهنة عليها.
انهيار أسهم “الرجل الأبيض”
فالانسحاب الأميركي، بتلك الطريقة المذلّة والمهينة، وترك أميركا لحلفائها و”عملائها” والموظّفين الذين شاركوا في سلطتها 20 عاماً، سيحفران عميقاً في وجدان تاريخ المنطقة. وهو إعلانٌ واضح وصريح عن بدء زمن جديد. من عناوينه، تلك التي حفرها صوت باراك أوباما على جدران جامعة القاهرة في 2009، ويمكن اختصاره بالتالي: “فليحكُم الأقوياء، ولنتحاور معهم”.
وفيما يتراجع “الرجل الأبيض”، بالأرقام، وبقدرته على السيطرة على العالم، وفيما تتزايد رغبة ناخبي قياداته السياسية في الانسحاب من الحروب الأهلية في بلادنا، تقع هذه القيادات تحت ضغوط كبيرة، مختصرها أنّ الغرب لا يريد بعد اليوم أن يموت جنوده (المسيحيون؟)، أميركيين وفرنسيين وأوستراليين وغيرهم… دفاعاً عن العرب، المسلمين في غالبيّتهم، أو عن الأفغان، المتشدّدين إسلامياً في معظمهم، أو عن غيرهم من شعوب المنطقة.
“فلتحكم طالبان في أفغانستان”، وسيحاول الغرب أن يجد قواسم مشتركة لحماية مصالحه. وها هي حركة طالبان تساعد في حماية المواطنين الأميركيين أثناء خروجهم من مطار العاصمة الأفغانية، كما جاء في وكالات الأنباء.
تعلّمت طالبان الدرس، وها هي تواجه “داعش” وتسمح للفتيات بالدراسة. المطلوب غربيّاً هو إبعاد الأذى عن أوروبا وأميركا. لا يريد الغرب 11 أيلول أميركياً ولا إسبانياً، كما في تفجيرات مدريد 2004. ومن هناك، “فليحكم الأقوى”، و”بطّيخ يكسّر بعضو”، في تلك الدول المقيمة في قرون ماضية، بالنسبة إلى قادة الغرب ومجتمعاتهم.
كذلك “فلتحكم إيران”، إن في اليمن أو سوريا أو لبنان أو العراق أو غيرها مستقبلاً. سيتحاور الغرب معها كما فعل أوباما. وإيران لا تؤذي. مَن فجّروا نيويورك ومدريد ليسوا من الشيعة. إيران تريد أن تحكم المنطقة، ولا أهداف لها في أوروبا وأميركا. على الأقلّ خلال العقود المقبلة. والذي لم يمانع أن تسيطر طالبان على أفغانستان، فلماذا يمانع سيطرة إيران على بلادنا؟
ها هي بيروت، المصارف والجامعات والمستشفيات والمطبعة والتلفزيون، ها هي تختفي وتنزلق من بين أيدينا، لتصير مرتعاً لقبضايات محطّات البنزين، وها هي النخب تترك لبنان، مع تسجيل الأمن العام في لبنان 260 ألف طلب جواز سفر بين كانون الثاني وآب 2021
البقاء للأقوى في بلادنا
التحاور مع الأقوى عادة أميركية عتيقة. وهذا ما تفعله فرنسا منذ عقود، فتفوز بالتنقيب وبيع النفط الإيراني. وفرنسا ماكرون تحاور إيران وحزب الله في لبنان منذ سنوات طويلة، حتّى في عزّ الحصار الغربي عليهما.
ما عاد الغرب يريد أن يعلّمنا الديموقراطية. ولا أن يجعلنا شعوباً “حديثة” تشبه مجتمعاته. تعب وسالت دماؤه كثيراً، وكذلك أمواله. وما عاد النفط في بلادنا يستحقّ كلّ تلك الدماء والأموال. ثمّة نفط بات استخراجه أقلّ صعوبة وكلفةً، جغرافياً وسياسياً وعسكرياً.
هل يغضب الأميركيون إذا فاز مجدّداً في الانتخابات النيابية حزبُ الله وحلفاؤه المباشرون (مردة وقومي سوري وحركة أمل وأرسلان ووهّاب)، ومعهم حليف الحزب جبران باسيل، إضافة إلى “رهينته” الحرّة، سعد الحريري؟ أم يتحاورون مع “المعلّم”؟ ومَن يا ترى سيكون هذا “المعلّم”؟ فارس سعيْد؟ أم حزب الله؟
الأكيد أنّ الغرب ما عاد مهتمّاً بمَن يعيش ومَن يموت ومَن يقتل مَن، من كابول إلى بيروت. المجدُ سيكون فعلاً لكواتم الصوت. وعلينا أن نتدبّر شؤوننا بأنفسنا. ومَن سيراهن على الأميركيين، سينتهي به المطاف، إمّا مقتولاً مثل العشرات في بلادنا، أو معلّقاً بدولاب طائرة أميركية، مثل الشقيقين الأفغانيّين والعشرات الذين ستعدمهم “طالبان”، أو أذرعها غير المباشرة، من “القاعدة” وغيرها.
أميركا غادرت. وانهار جدار برلين الأميركي في كابول، وهجم الطالبانيون. أمّا الشعوب التي تعيش خلف الجدار الأميركي فقد باتت في العراء العنفيّ، متروكةً لمَن يملك السلاح والرجال والتنظيم، والمال طبعاً.
وها هي بيروت، المصارف والجامعات والمستشفيات والمطبعة والتلفزيون، ها هي تختفي وتنزلق من بين أيدينا، لتصير مرتعاً لقبضايات محطّات البنزين، وها هي النخب تترك لبنان، مع تسجيل الأمن العام في لبنان 260 ألف طلب جواز سفر بين كانون الثاني وآب 2021.
بيروت، درّة التاج اللبناني، تبدو الأكثر ترشُّحاً لتكون عبرةً لهذا الشرق، السائر نحو الظلمات. من كابول الجريحة، المتروكة لوحوش الطالبان، والمتروكة نساؤها لأهوال بتنا نعرفها جيّداً، إلى المصير الذي ينتظرنا.
إقرأ أيضاً: انهيار الجدران: برلين – كابول – وبيروت Next؟ (1)
فهل يدخل مَن سيبقى من أهل هذه البلاد، في دين “الأقوى” أفواجاً، خلال السنوات المقبلة؟
ما يرعب أنّ كابول اليوم قد تكون صورة بيروت غداً.. قد تكون هي نبوءتها ومستقبلها.
والذين سيكملون في التخلّي عن بيروت، ستكون بيروت الغد هي مستقبلهم بعد هذا الغد، ونبوءتهم وكابوسهم.
والحاضر.. فليُعلِم الغائِب.