صداقة أميركا… المُميتة

مدة القراءة 7 د

كتب المفكّر الإماراتي المميّز الدكتور عبدالخالق عبد الله مقالة في جريدة النهار (15-08-2021) بعنوان “خيارات دول الخليج العربي في ضوء الانسحاب الأميركي من أفغانستان”. ويقول كاتبنا الكبير: “جاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان متسرّعاً ومتخبّطاً وكارثياً في دلالاته على صورة وسمعة أميركا”، وإنّ أميركا لم تعد مؤهّلة لقيادة العالم. ويستشفّ الدكتور عبد الخالق من الانسحاب الأميركي أنّ العالم “دخل مرحلة ما بعد أميركا”، وعلى دول الخليج إعداد العُدّة لهذه المرحلة.

على الرغم من أنّ تحليل الأستاذ عبدالخالق فيه كثير من الصحّة، إلا أنّ الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل والتركيز على الفوارق الدقيقة. لقد تمّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان باتفاق بين واشنطن وطالبان بعد مفاوضات مضنية في الدوحة في عهد إدارة ترامب، والرئيس بايدن نفّذ ذلك الالتزام.

مفهوم “عالم ما بعد أميركا” يحتاج إلى القليل من التفصيل والتدقيق. فالانحدار الأميركي ليس انحداراً مطلقاً، بل بالعكس فإنّ القوة الأميركية في تصاعد. ولا تزال الولايات المتحدة القوة الأولى في العديد من المؤشّرات. لكنّ انحدارها، بلا شكّ، نسبي

فهل كان الانسحاب مرتبكاً؟

بالطبع. ليس بسبب التسرّع، بل بسبب أنّ طالبان هي التي ضبطت تواقيت الأحداث وليس واشنطن. فالأحداث في هذه الأحوال لا تتطوّر بخطّ واحد مستقيم، لكن بشكل متعرّج ويصعب ضبط إيقاعها. فالزخم هو سيّد الموقف، والتطوّر التسلسلي والمنطقي للأحداث ضربٌ من الأماني.

الانسحاب من أفغانستان ليس دليلاً على دخول العالم مرحلة ما بعد أميركا، لكنّه نتيجة لهذا التطوّر. فالعالم دخل مرحلة ما بعد أميركا منذ أمد. وقد كتب فريد زكريا، المؤلّف الأميركي – الهندي، وهو ابن المؤسسة الأميركية، كتابه الشهير “عالم ما بعد أميركا” في عام 2008. وهو العام الذي اُنتُخب فيه باراك أوباما على خلفيّة الأحداث في العراق والإخفاق الذريع الذي مُنيت به إدارة بوش الابن في ذلك البلد الذي لا يزال يئنّ من الغزو الأميركي.

وقد جاء أوباما، كما قال أثناء حملته الانتخابية، لا لينهي الحرب فحسب، بل لينهي العقلية التي أدّت إلى الحرب. وقد شرع الرئيس الجديد في سياسته الجديدة للتخلّص من الالتزامات المتعدّدة في بعض المناطق. وأعلن الرئيس أوباما سياسة التحوّل إلى الشرق. وهي عبارة أُسيء فهمها. والمقصود منها هو إعادة التوازن إلى منطقة الباسيفيك بسبب السياسات الصينية الجامحة التي أقلقت حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في منطقة شرق آسيا.

مفهوم “عالم ما بعد أميركا” يحتاج إلى القليل من التفصيل والتدقيق. فالانحدار الأميركي ليس انحداراً مطلقاً، بل بالعكس فإنّ القوة الأميركية في تصاعد. ولا تزال الولايات المتحدة القوة الأولى في العديد من المؤشّرات. لكنّ انحدارها، بلا شكّ، نسبي. ففي وقت كان للولايات المتحدة نصيب الأسد من الناتج الإجمالي العالمي، حوالي 40% في عام 1960، أصبح اليوم يترنّح عند حوالي 15%. وهذا يعني أنّ الولايات المتحدة لم تنحدر، ولكنّ الآخرين صعدوا، وعلى رأسهم الصين. وأصبح العالم الأحاديّ القطب، بعد سقوط جدار برلين، جزءاً من التاريخ. وعلى الولايات المتحدة اليوم أن تتشارك وتتقاسم وتتنافس في العالم مع قوى جديدة صاعدة تكبِّل خياراتها.

ويُقارَن الانسحاب الحالي من أفغانستان بالوضع في فيتنام حين انسحبت الولايات المتحدة بعد حرب ضروس خسرت فيها ما يربو على خمسين ألف جندي. والصور الآتية من كابول تذكِّر بتلك المروحيّات التي كانت تعلو السفارة الأميركية في سايغون فيما يحاول الفارّون التعلُّق بها. وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة فسنجد أنّ هناك فوارق مهمّة. تسبّبت الحرب في فيتنام بانشقاق كبير في المجتمع الأميركي، وواجه النظام السياسي هناك أكبر أزمة شرعية منذ العصر التقدّمي (1890-1920). لكنّ حرب أفغانستان كانت مبنية على الإجماع الأميركي، وكذلك الانسحاب. هناك سياسيّون في الحزب الجمهوري ينتقدون الرئيس بايدن على الانسحاب على الرغم من أنّ خطة الانسحاب ورثها الرئيس الحالي من الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب.

لا يعني انسحاب أميركا بالضرورة الانسحاب من كلّ العالم، وكلّ المناطق. فالولايات المتحدة انسحبت مدحورةً من فيتنام في عام 1975، لكنّ التزاماتها مع اليابان وكوريا الجنوبية ظلّت ثابتة، ومواجهتها للاتحاد السوفيتي استمرّت في غرب أوروبا ووسطها

لكن ما هي تبعات الانسحاب من أفغانستان بالنسبة إلى الشرق الأوسط والخليج العربي؟

هل هذا الانسحاب كارثة على المنطقة كما تشير مقالة عبدالخالق؟

تاريخياً، لا يعني انسحاب أميركا بالضرورة الانسحاب من كلّ العالم، وكلّ المناطق. فالولايات المتحدة انسحبت مدحورةً من فيتنام في عام 1975، لكنّ التزاماتها مع اليابان وكوريا الجنوبية ظلّت ثابتة، ومواجهتها للاتحاد السوفيتي استمرّت في غرب أوروبا ووسطها. وعندما تحدّى الزعيم الإيراني الراحل آية الله الخميني سطوة أميركا في الشرق الأوسط واجهته بدعمها للعراق الذي أوقف تمدّد إيران في المنطقة. وحين قام صدام بغزو الكويت في عام 1990، أرسلت الولايات المتحدة 500 ألف جندي لتحرير الكويت وإرجاع العراق إلى ما وراء حدوده، وأوثقت الخناق عليه.

الاستراتيجية الأميركية واضحة في شأن الشرق الأوسط والخليج العربي. ولفهمها يجب أن نفرّق بين درجات من المصالح المتعدّدة، كما يراها الاستراتيجيون. فهناك ثلاث درجات من المصالح بالنسبة إلى الدول عامةً، والقوى العظمى خاصةً.

أولاً، المصالح الحيوية: وهي المصالح التي تتعلّق بوجود الدولة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. ويؤدّي المساس بها إلى نزاع مسلّح (العدوان على سكان الدولة ووحدتهم وهويّتهم الوطنية، وعلى أراضي الدولة ومياهها وسمائها الإقليمية وثرواتها الوطنية). وهذا ما أدّى إلى الحرب في أفغانستان نتيجة الإرهاب الذي ضرب أميركا والقادم من تلك البلاد.

ثانياً، المصالح الرئيسة: هي مصالح غاية في الأهميّة، لكن تستطيع الدولة التعايش مع الإضرار بها (الإضرار باستقرارها الإقليمي أو بحليف استراتيجي أو مصادر اقتصادية مهمّة). وهذه حالة احتلال الكويت التي أدّت إلى حرب مع العراق.

ثالثاً، المصالح الثانوية: هي مصالح مهمّة، ولكنّها لا تُلحق أضراراً بالغة بالدولة، ولا تهدِّد المصالح الحيوية والرئيسة (فقدان أسواق للصادرات أو انخفاض في التبادل التجاري، الإضرار بالقوة المعنوية والدعايات المغرضة والعلاقات الدبلوماسية). وهي حالات كثيرة مثل خسارة مناطق النفوذ أثناء الحرب الباردة للخصم السوفيتي.

يمثّل الشرق الأوسط مصالح حيوية ومصالح رئيسة. أمن إسرائيل هو جزء من بنية الثقافة السياسية الأميركية، وجزء من المشهد السياسي الأميركي الداخلي. الخليج وتدفّق النفط يمسّ بالنظام الاقتصادي الدولي الذي تلعب فيه واشنطن دور المهيمن لتعزيز استقرار أسواق الطاقة. والولايات المتحدة هي القوّة التي تستطيع إعادة التوازن إلى أسواق العالم المالية، وصاحبة العملة الأولى في العالم (الدولار)، والقوة العسكرية الأقوى والأكثر تقدّماً تكنولوجياً. هذه المصالح الاستراتيجية الكبرى ستمنع الولايات المتحدة وطوّافاتها من الهروب من المنطقة. ومبدأ كارتر لا يزال فاعلاً، وهو الذي هدّد باستخدام القوة النووية إذا ما تعرّض أمن الخليج للتهديد.

إقرأ أيضاً: 2021: هل هو عالم ما بعد أميركا حقاً؟!

تربّعت الولايات المتحدة على عرش العالم بعد حرب تحرير الكويت في عام 1991 من دون منافس. لكن بعد سنين قليلة، إثر معركة مقديشو في عام 1993، انسحبت من الصومال مغلوبة، لأنّ الصومال ليست مصلحة حيوية ولا مصلحة رئيسة، وليست حتى مصلحة ثانوية. الفهم الدقيق لهذه الحقائق وتفصيلاتها وفوارقها الدقيقة يحسِّن من الموقف التفاوضي لدول الخليج العربي إزاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

كان يردِّد وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر العبارة التالية: “أن تكون عدوّ أميركا فقد يكون خطراً، ولكن أن تكون صديقها فهو أمر مميت”.

 

* كاتب ومفكّر إماراتيّ.

*أستاذ ملحق على كليّة الدفاع الوطني الإماراتية.

* مستشار سياسيّ سابق في القيادة العامّة للقوّات المسلّحة الإماراتية.

* مدرّس مساعد في جامعة ميتشيغان – أن آربر.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…