الحكاية الأرمنية للقاء الفاتيكان حول لبنان

مدة القراءة 5 د

عشيّة لقاء الفاتيكان الذي يجمع البابا فرنسيس وبطاركة الكنائس اللبنانية، لا بدّ من التذكير بأنّ الفاتيكان ليس مجرّد مرجع دينيّ فقط، بل هو دولة أيضاً، لها حكومة ووزراء وسفراء وإدارة محلّيّة، وأنّ حدود هذه الدولة لا تقتصر على الميل المربّع الواحد في قلب العاصمة الإيطالية روما، بل تمتدّ في كلّ الاتجاهات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.

فحيث توجد أبرشية كاثوليكية في دولة من دول العالم تتولّى إدارة وتنظيم الشؤون الخاصّة بالجماعات المسيحية الكاثوليكية، يستمدّ عمل هذه الأبرشيات عبر البطريركية المحلّيّة، من الفاتيكان نفسه. لذلك يصدر قرار انتخاب البطاركة الكاثوليك عن الفاتيكان، أيّاً تكن دولة هذا البطريرك المنتخَب، من الصين أو الهند شرقاً، أو نيجيريا غرباً، أو الأرجنتين جنوباً. حتّى المطارنة لا بدّ من الحصول على الموافقة الفاتيكانية قبل أن يتبوّأوا مناصبهم المحليّة.

فكرة دعوة البطاركة إلى لقاء الأوّل من تمّوز جاءت من بطريرك غير كاثوليكي، هو الكاثوليكوس آرام رئيس الطائفة الأرثوذكسية الأرمنية. وكان شغل منصب رئيس مجلس الكنائس العالمي في جنيف عدّة دورات

وترجمة ذلك أنّ حدود الفاتيكان المعنوية، وليس المادية، تمتدّ إلى كلّ هذا العالم. ولذلك يتمتّع الفاتيكان بقوّة معنوية لا تُضاهى، ومن الخطأ تقويمها بعدد الدبّابات التي يملكها، كما كان يردّد الرئيس السوفياتي الأسبق الجنرال جوزف ستالين.

مع ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كان للفاتيكان جيش، وكانت له أيضاً قوات بحريّة. والبابا كاليستوس الثالث، وهو من أصل إسبانيّ (1455-1458)، هو الذي أنشأ الأسطول البحري وسلّحه من ماله الخاص ومن مساهمات الكرادلة. إلا أنّ هذا الأسطول الذي عمل في البحر المتوسط، واشتبك مع الأتراك عدّة مرّات، أُلغِي في شهر أيلول من عام 1870، عندما قامت المملكة الإيطالية بعاصمتها روما. والبابا بنديكتوس الرابع عشر (1740-1758) هو الذي ألغى تنظيم فرق الفرسان الذي كان مسؤولاً عن حماية البابا والفاتيكان. أمّا الجيش الفاتيكاني فقد أسّسه البابا غريغوري السادس (1045-1046) لتحرير “أراضي الكنيسة من الغزاة المحتلّين”.

ولأنّ مسؤوليات الفاتيكان متعدّدة وواسعة، فإنّ له حكومة محلية وإدارة محلية تتواصلان مع المرجعيّات الدينية الكاثوليكية في كلّ دولة من دول العالم، بما فيها لبنان بالطبع. ولا يقتصر هذا التواصل على الشأن الكنسي الليتورجي – التعبّدي، بل يشمل كذلك المبادئ العامّة التي تقوم عليها استراتيجية الفاتيكان: العيش المشترك والأخوّة الإنسانية.

يقتصر هذا التواصل رسميّاً على البطاركة الكاثوليك، لكنّ فكرة دعوة البطاركة إلى لقاء الأوّل من تمّوز جاءت من بطريرك غير كاثوليكي، هو الكاثوليكوس آرام رئيس الطائفة الأرثوذكسية الأرمنية. وكان شغل منصب رئيس مجلس الكنائس العالمي في جنيف عدّة دورات. وعلى الرغم من أنّ الفاتيكان عضو مراقب في المجلس (الذي تقتصر العضوية العملية فيه على الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية في العالم)، فقد أقام الكاثوليكوس آرام علاقات تعاون اتّسمت بكثير من الودّ والاحترام مع المسؤولين في الإدارة الحكومية بالفاتيكان، وكذلك مع البابا نفسه.

يقول الكاثوليكوس أيضاً إنّ “لقاءً ثانياً يتبع ذلك، وسوف يُعقد على مستوى وطني شامل، ويضمّ ممثّلين مسلمين عن كل المذاهب لتحويل التفاهم المسيحي – المسيحي إلى تفاهم وطني مسيحي – إسلامي مشترك


لاحظ الكاثوليكوس كيف أنّ تدهور الأوضاع اللبنانية، يرافقه تعثّر الدور المشترك للكنائس لإنقاذ لبنان ممّا هو فيه، أصبح يشكّل خطراً على الكيان اللبناني وعلى دور لبنان ورسالته. حمل الكاثوليكوس آرام الأول هذه المخاوف إلى الفاتيكان، ورنّ جرس التنبيه. فكان التجاوب بالدعوة إلى اللقاء. ذلك أنّ إنقاذ لبنان ممّا هو فيه اليوم هو إنقاذٌ لرسالته. وهي مهمّة إنسانية طالما نادى الفاتيكان باحترامها منذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1965)، حتى السينودس حول الشرق الأوسط (2010)، مروراً بالسينودس حول لبنان (1995).

يقول الكاثوليكوس آرام إنّ “اللقاء سيبحث دور الكنيسة في الشأن الوطني العامّ، أو تفعيل دور الكنيسة والتنسيق بين مرجعيّاتها على قاعدة الثوابت الوطنية في الوحدة الوطنية والعيش المشترك. ومن أجل ذلك اقتصرت الدعوة على البطاركة من حيث إنّهم يمثّلون كنائسهم المتعدّدة”.

ويقول الكاثوليكوس أيضاً إنّ “لقاءً ثانياً يتبع ذلك، وسوف يُعقد على مستوى وطني شامل، ويضمّ ممثّلين مسلمين عن كل المذاهب لتحويل التفاهم المسيحي – المسيحي إلى تفاهم وطني مسيحي – إسلامي مشترك. وهو الهدف الذي كان تحقيقه، ولا يزال، أولويّة فاتيكانية منذ عام 1965 حتّى اليوم”.

ومن زاوية الفاتيكان الدولة، فإنّهم يدركون جيّداً أمرين أساسيّين: الأوّل هو أنّ اللعبة السياسية في لبنان هي انعكاس مباشر لصراع القوى الخارجية، الإقليمية منها والدولية. والثاني هو أنّ آراء المواطنين ووجهات نظرهم ليست هي التي تقرّر مسار الأمور وتطوّر الأحداث. فالذي يقرّر هو من يملك القوّة العسكرية. ولأنّ الدولة في لبنان لا تحتكر امتلاك السلاح واستخدامه، فإنّ التعامل مع هذه الأحداث، ومع تطوّراتها، يخرج عن قدرتها على التحكّم بمسارها وبمصيرها.

إقرأ أيضاً: لقاء الفاتيكان: أربعة أخطاء وحقيقة واحدة

تبقى القوّة المعنوية التي كان الفاتيكان دائماً يلجأ إليها في الأوقات الحرجة، وهي القوّة التي يحاول اليوم أن يشهرها في وجه معطِّلي الوفاق الوطني ومدمِّري صيغة العيش المشترك.

إنّ نجاح الفاتيكان، حيث فشل الآخرون، هو بمنزلة معجزة. والفاتيكان كمرجعية دينية يؤمن بالمعجزات ويكرِّم أبطالها وينصّبهم قدّيسين.                                    

مواضيع ذات صلة

وقف حرب لبنان: ركيزة الحاضنة العربيّة؟

لماذا يعطي بنيامين نتنياهو هدية لإدارة راحلة في وقت يسعى بما أوتي من تأثير إلى أن يخسر الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية الثلاثاء المقبل؟ بعد الخيبة من…

… وتعود الكرة إلى ملعب “أبو مازن”

هذا ما سيحدث عاجلاً أم آجلاً: قد تتبلور حلول لجبهة الردّ والردّ على الردّ، وإن لم تكن نهائية وحاسمة، لكنّها وفق كلّ المؤشّرات ستظلّ محصورةً…

هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟

الضربة الجوّية الإسرائيلية على إيران لم تكن “مزلزلة” كما توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم تكن فتّاكة ومميتة كما هدّد وزير حربه يوآف غالانت….

هل تدركون ماذا يعني 1 تشرين الثاني الآن؟

 إنّه واحد تشرين الثاني 2024. اليوم الأوّل، من السنة الثالثة من الفراغ الرئاسي الرابع في ما بقي من دولة لبنان. وللمصادفة، هو عيد جميع القدّيسين،…