بعد أسبوعين من انعقاد مؤتمر دعم الجيش، بمشاركة دولية وعربية واسعة، بدأ يُترجَم المنحى التنفيذي للمؤتمر، وإن بوتيرة لا تتناسب مع حجم الكارثة المالية والاقتصادية، التي تتطلّب استنفاراً دوليّاً يُفترَض أن يتجاوز “بيروقراطية” الدول في التعاطي اللوجستي مع بلدٍ منكوبٍ كلبنان تتعرّض مؤسّساته الأمنيّة والعسكرية لتداعيات انهيار لا مثيل له في تاريخه الحديث.
في الرسائل السياسية بقيت قطبة عدم مشاركة السعوديّة في المؤتمر غير واضحة في ظلّ الموقف الإيجابي للمملكة تجاه الجيش ودوره، لكنّ مصادر مطّلعة تجزم لـ”أساس” أنّ “موقف الرياض مرتبط بالتموضع حيال لبنان ككلّ. وهي تنفض يدها تماماً من المستنقع اللبناني، و”التفرّج” بانتظار ما سيسفر عنه الحِراك الكبير في المنطقة، الأمر الذي أبلغته الرياض للأميركيين والأوروبيين حين سُئلت عن الربغة بالمشاركة في المؤتمر”.
يبدو أنّ حجم الكارثة وخطورتها لم يؤثّرا على العمل الأمني الاستخباري ضمن المؤسسة العسكرية، إذ بقي محصّناً حتى الساعة من تأثيرات انخفاض منسوب مقوّمات الصمود، الذي بات يُلامس الخطّ الأحمر
يَحدث ذلك في ظلّ ما يؤكّده سفراء دول كبيرة وممثّلون لمرجعيّات دولية أمام مسؤولين أمنيّين من أنّ “المجتمع الدولي لن يترك لبنان فريسة الفوضى الأمنيّة، ودعم المؤسسات الأمنيّة والعسكرية قائم. لكنّ ما يحدث أنّ التقصير الفاقع للسلطة السياسية في تأليف حكومة، وعدم المباشرة بالإصلاحات فوراً، ينعكس على القرار الأممي بالتدخّل، ويؤثّر على وتيرة المساعدات للعسكر، التي بدورها تحتاج لوجستياً إلى وقت لتُهَيّأ وتُوضَّب وتُرسَل”.
عمليّاً، أنشأ الجيش خليّة عمل تنفيذية لمواكبة مرحلة ما بعد مؤتمر الدعم. ويتواصل الملحقون العسكريون وممثّلو الدول، التي شاركت في المؤتمر، مع ضبّاط الجيش لتسلّم لائحة الاحتياجات، وتحديد آليّة الدعم استناداً إلى لوائح محدّدة وواضحة توزّعت بين شقّين، ولم يُدرَج من ضمنها طلب قيادة الجيش مساعدة نقدية بالدولار.
1- يرتبط الشقّ الأوّل بحاجات العسكريين الحياتية الأساسية كالغذاء والملابس والطبابة والأدوية والمستلزمات الطبية وغيرها.
2- ويتعلّق الثاني بالحاجات “الحَرَكية” أو العملانية، كالمحروقات والمازوت وقطع الغيار.
ووفق المعلومات، فإنّ دولاً لم تشارك في المؤتمر تتواصل عبر سفرائها أو ملحقيها العسكريين في لبنان مع الجيش بهدف “عَرض المساعدة”.
وفي أشهر الأزمة تلقّى الجيش مساعدات عينيّة حيويّة وهبات من عدّة دول أسهمت في “ترييح” عناصره نسبيّاً، لكنّ المطلوب أكثر بكثير، ويُفترض بمؤتمر الدعم أن يشكّل حبل الإنقاذ من أسوأ أزمة تمرّ بها المؤسسة العسكرية في تاريخها، فيما التأخير المقصود أو غير المقصود ستكون له انعكاسات سلبيّة جدّاً على وضع الجيش.
أمّا برامج التدريب والمساعدات العسكرية الثابتة للجيش، خصوصاً من الولايات المتحدة وغيرها من الدول، فحافظت على الوتيرة نفسها من دون أيّ تعديل.
وقد كشفت السفيرة الأميركية دوروثي شيا، في حديث إلى قناة “الجديد” أمس، عن “مضاعفة واشنطن المساعدات المقدّمة إلى الجيش لهذا العام بـ15 مليون دولار من خلال برنامج التمويل العسكري التابع لوزارة الخارجية الأميركية. وسنستثمر مع شركائنا 120 مليون دولار في المعدّات والتدريب”.
تقول مرجعية عسكرية: لن ينهزّ العمل الأمنيّ بسبب تنكة بنزين، وجهود الجيش صلبة في هذا السياق، لكنّ الأزمة على المستوى المتوسط والبعيد ستؤثّر حكماً على كلّ مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الأمنيّة والعسكرية
وقالت شيا: “زوّدنا الجيش اللبناني بذخيرة بقيمة 55 مليون دولار وقمنا ببناء مستودع آمن لتخزينها. والجيش ليس مضطرًا إلى تكبّد كلفة 55 مليون دولار لهذه الذخيرة فسنتحمّل نحن هذه الكلفة ليتسنّى له استخدام هذا المبلغ في ميزانيته لتلبية احتياجات جنوده”.
كلام السفيرة الاميركية يعني أنّ هناك وفرًا في الميزانية المرصودة للجيش بقيمة قد توازي 55 مليون دولار لم يعد بحاجة لها لشراء ذخيرة بعدما حصل عليها كهبة من بلادها.
وفي هذه الحال، تقول مصادر معنية إنّ “استعمال الأموال التي رصدتها الحكومة لوزارة الدفاع ضمن ميزانيتها لغير وجهتها يوجب تعديل ترقيم بند الإنفاق. وهذا الأمر يقتضي رفع مراسلة من وزير الدفاع إلى وزارة المال بوجود وفرٍ في الميزانية في بند التسليح، وأنّ هناك حاجة مثلًا لنقله إلى بند التغذية أو الطبابة… وفي حال عدم الموفقة يعود المبلغ إلى خزينة الدولة إن لم يصرف للغاية التي خُصّص لها”.
وكان قائد الجيش العماد جوزيف عون واضحاً في إشارته خلال مؤتمر الدعم، الذي عُقِد افتراضياً في 17 حزيران الجاري بدعوة من باريس، وبدعم من الأمم المتحدة وإيطاليا، ومشاركة 20 دولة، إلى أنّ “الجيش هو المؤسسة الوحيدة والأخيرة التي لا تزال متماسكة، وأيّ مسّ بها سيؤدّي إلى انهيار الكيان اللبناني وانتشار الفوضى”، محذّراً من أنّ “استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمالي سيكشف البلد أمنيّاً”.
وعلى الرغم من تدنّي قيمة رواتب العسكريين بنسبة 90%، كما أكّد قائد الجيش، ثمّة تضخيم يرافق التسريبات المنظّمة عن حالات فرارٍ واسعة من الجيش.
صحيح أنّ الرقم المسجّل مُرتفع جداً مقارنة بكلّ السنوات السابقة، لكنّه تحت السيطرة ومضبوط، ويتوزّع بين حالات فرار ضباطٍ وعدد أكبر من الرتباء والأفراد (يتعرّض أصحابها للملاحقة والعقوبة العسكرية)، أو طلب انقطاع عن الخدمة، أو طلب مأذونية لمغادرة البلاد، أو تقديم طلب تسريح من السلك، لكن بشكل محدود.
وقد لوحظ، بعد انعقاد مؤتمر دعم الجيش، التحاق بعض العسكر بالخدمة مجدّداً، ولا سيّما أنّ الدافع الأساس لترك السلك مؤقتاً أو بشكل دائم هو ثقل الكارثة الذي حوّل العسكري إلى أقلّ من عامل “بالفاعِل” أو “يوميّ”.
ويبدو أنّ حجم الكارثة وخطورتها لم يؤثّرا على العمل الأمني الاستخباري ضمن المؤسسة العسكرية، إذ بقي محصّناً حتى الساعة من تأثيرات انخفاض منسوب مقوّمات الصمود، الذي بات يُلامس الخطّ الأحمر.
مصادر مطّلعة تجزم لـ”أساس” أنّ موقف الرياض مرتبط بالتموضع حيال لبنان ككلّ. وهي تنفض يدها تماماً من المستنقع اللبناني، و”التفرّج” بانتظار ما سيسفر عنه الحِراك الكبير في المنطقة
هذا الواقع يُعرِّض العسكري، بمختلف رتبه، سواء المُرابض في الحدود أو المكلّف بمهمّات إدارية في مكتبه أو عملانية في الشارع، أو المُنخرِط في عمليّات أمنيّة حسّاسة، لضغوطٍ نفسية واقتصادية واجتماعية هائلة تتجاوز تأثيراتها تلك التي يتعرّض لها المدنيون. فالعسكر ينتظم ضمن هرميّة حديديّة لا تحتمل “فشّات خلق” شخصية، أو خروجاً عن “الأمر العسكري”، أو اجتهاداً في الممارسات والتكيّف مع المصيبة، كما يحصل مع “المدني”.
وبقدر ما ينشغل الجيش بفكّ “المتصارعين” بعضهم عن بعض أمام محطّات الوقود، والتصدّي لعمليات إطلاق النار في الشوارع وقطع الطرقات الذي بدأ يأخذ مدى أوسع وأخطر، ورصد المخالفين من أصحاب الاحتكارات ومستوردي الموادّ الغذائية والأدوية الذين “يخفون” البضاعة المدعومة وغير المدعومة في المستودعات، وبقدر ما يركّز جهوده على منع عمليات التهريب على الحدود وملاحقة شبكات المخدِّرات ومروّجيها، فإنّه يُبقي على جهوزية عالية على مستوى الأمن الاستباقي في ظل واقع من الفوضى قد يسمح باختراقات على أكثر من مستوى.
وما قاله رئيس مجلس النواب نبيه برّي عن “مخاوف أمنيّة” لديه، يتكرّر على لسان أكثر من شخصية سياسية وأمنيّة تتخوّف من “الاستثمار” في الفوضى.
تقول مرجعية عسكرية: “لن ينهزّ العمل الأمنيّ بسبب تنكة بنزين، وجهود الجيش صلبة في هذا السياق، لكنّ الأزمة على المستوى المتوسط والبعيد ستؤثّر حكماً على كلّ مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الأمنيّة والعسكرية. فبالإضافة إلى الجهد التقني في العمل الأمني، هناك جهد بشري على الأرض يحتاج إلى إحاطة كاملة ليقوم بالمتوجّب عليه”.
وتضيف المرجعية: “العمل الأمنيّ المرتبط برصد الشبكات الإرهابية، ووضع أفرادها تحت الرصد، وكشف التهريب، خصوصاً المخدِّرات، ومداهمة أوكار صنّاع الممنوعات وتجّارها، ومراقبة الحدود والوضع الأمني في المخيّمات.. هو عمل دائم لا يتوقّف، لكن مع اتّساع رقعة عمل الجيش على عدّة “جبهات” في المناطق، وفي التوقيت نفسه، يصبح العمل الأمنيّ أصعب بكثير في ظلّ المشاحنات في محطّات الوقود، والخلافات مع أصحاب المولّدات الخاصّة، والتفلّت الأمنيّ في الشوارع من خلال اعتراض المواطنين المتزايد لصهاريج البنزين والمازوت وشاحنات الموادّ الغذائية والاستيلاء على محتوياتها، أو إقفال الطرقات الذي ازداد بوتيرة مقلقة في الأيام الماضية، أو ما يحدث داخل المستشفيات والصيدليات وفي محيطها”.
تمكّن الجيش حتّى الآن من مواكبة حاجات العسكر بالحدّ الأدنى على مستوى الاستشفاء والأدوية والبنزين مع حسم ليتر واحد من كل بون بنزين يسمح بـ20 ليتراً، واعتماد آليّة “مفرد مجوز” للسيارت المدنية التابعة للضباط الحاليين والمتقاعدين. ولا يطول هذا القرار الذي بدأ تنفيذه منذ نحو شهرين السيارات المدنية التابعة للجيش. وتُوزَّع كراتين إعاشات للعسكر شهرياً.
إقرأ أيضاً: مؤتمر دعم الجيش… أو مؤتمر نبذ السياسيين
وفيما رُصِدت طوابير السيارات أيضاً أمام محطات البنزين العسكرية، فقد أثيرت ضجّة حول الخبر المسرّب عن تقديم الجيش 8 ملايين ليتر مازوت من مخزونه الاحتياطي. وأفاد مصدر مطّلع أنّ الخبر، الذي لم تنفِه القيادة العسكرية، “صحيح، ولكنّ الكمّية ليست دقيقة، وهي أقلّ من ذلك بكثير. والمؤسّسة بصدد تقديم ما يلزم من مخزونها الاستراتيجي، وحيث الحاجة القصوى إليه، منعاً لخروج الوضع عن السيطرة، لكن من دون أن يؤثّر ذلك بالطبع على تلبية حاجات المؤسسة من هذا المخزون. وسبق أن فعلت قيادة الجيش الأمر نفسه في منطقة الجنوب بعد 17 تشرين”.
وقد سُجِّل للجيش نجاحه في “زمّ” أعداد صهاريج البنزين والمازوت التي كان تتوجّه نحو البقاع والشمال، وجزء كبير منها بهدف التهريب عبر الحدود، من نحو 2200 صهريج إلى 136 صهريج مازوت و128 صهريج بنزين شهرياً، إضافة إلى تقليص عمليّات تهريب الغاز والطحين.