في الأيام الأخيرة، استخدم الحريريّون ورقة اعتذار رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري كثيراً. بعضهم كانوا يريدون تلك الخطوة منذ أشهر، ويروّجون لها باستمرار باعتبار أنّها تضع رئيس “تيار المستقبل” في موقعه الطبيعي ضمن المعادلة القائمة حالياً، ولم يكونوا أصلاً مقتنعين بأنّ دخول “زعيمهم” السراي الحكومي، في عهد الرئيس ميشال عون، يصبّ في مصلحة فريقهم، وكانوا يفضّلون لو أنّ الحريري لم يتجرّع كأس التكليف وترك كرة النار في أيدي العهد وحلفائه ليتفرّجوا هم عن بُعد على تداعيات هذا الحريق.
لكنّ الحريري، الذي يتقلّب على نار أزماته المتعدّدة، عاد إلى نقطة الصفر: لم يحِن بعد زمن الاعتذار. وهو سارع، صباح أمس، على أثر لقائه السفيرة الأميركية دوروثي شيا، إلى التأكيد أنّ “الأولويّة هي للتأليف قبل الاعتذار، الذي يبقى خياراً مطروحاً، وهو ليس هروباً من المسؤولية بقدر ما هو عمل وطنيّ، إذا كان يسهّل عمليّة تأليف حكومة جديدة، يُمكن أن تساهم في إنقاذ البلد”.
الرهان على تحوّل سريع في المشهديّة اللبنانية ربطاً بالمتغيّرات الدولية، وتحديداً المفاوضات الأميركية – الإيرانية، فيه الكثير من المبالغة، وليس في محلّه
ثمّة من يقول إنّ لجوء الرجل إلى الحاضنة السنّيّة، التي تمثّلها دار الفتوى والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ورؤساء الحكومات السابقون، قدّم له درعاً واقياً في هذه المرحلة، وجعل من الاستحالة على أيّ طامح إلى الجلوس مكانه تخطّي السقف الذي رسمه بقلم طائفته. أقلّه هكذا يعتقد المحيطون به، ويرون أنّ ما فعله الرجل خلال الأيام الأخيرة ساهم في شدّ عصب بيئته، وزنّر موقع رئيس الحكومة المكلّف، الذي يتولاّه حالياً، بـ”حزام أمان” لن يتمكّن خصومه، وتحديداً رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، من تجاوزه من خلال الدفع باتجاه مرشّح جديد لرئاسة الحكومة.
ويقول هؤلاء إنّ طوق النجاة الذي حاكه رئيس مجلس النواب نبيه بري حول الحريري من خلال رفع نبرة خلافه مع الرئاسة الأولى إلى مستويات غير مسبوقة، ساهم في تأجيل اعتذار الحريري في هذه اللحظة، وترحيل هذه الخطوة إلى مرحلة ثانية، وقد لا تكون في القريب العاجل… ولو أنّ المواكبين يشيرون إلى أنّ المهلة الجديدة لا تتخطّى الأسبوعين من الزمن، ومن بعدها لكلّ حادث حديث.
يرى المتابعون أنّ الساحة الدولية في حال ترقّبٍ لنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وقد يكون الاتفاق النووي مؤجّلاً إلى حين إعلان نتائج صناديق الاقتراع الإيرانية، وتسلُّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة. لذا الرهان على تحوّل سريع في المشهديّة اللبنانية ربطاً بالمتغيّرات الدولية، وتحديداً المفاوضات الأميركية – الإيرانية، فيه الكثير من المبالغة، وليس في محلّه.
لكنّ الحريري، الذي يتقلّب على نار أزماته المتعدّدة، عاد إلى نقطة الصفر: لم يحِن بعد زمن الاعتذار. وهو سارع، صباح أمس، على أثر لقائه السفيرة الأميركية دوروثي شيا، إلى التأكيد أنّ “الأولويّة هي للتأليف قبل الاعتذار
وعلى هذا الأساس، يسود الاعتقاد أنّ الحريري يتريّث في رفع بطاقته الحمراء للخروج إراديّاً من حلبة الرئاسة الثالثة لينتقل إلى صفوف المعارضة لخوض معركته النيابية. وهو لا يريد أن يتناقض مع المساحة الإضافية التي فرضها برّي بمبادرته، فلعلّ وعسى أن تنجح، خصوصاً أنّ الاعتذار راهناً قد يظهره بمظهر المغلوب، والعهد بمظهر الغالب، وهذا ما يتجنّبه برّي.
يقول المعنيّون إنّ ترك الساحة في هذه اللحظة، وقبل حوالي عام من الاستحقاق النيابي، قد يسمح للعهد بعبور خرم تكليف شخصيّة ثانية لرئاسة الحكومة، والدفع باتجاه تأليف حكومة قد يكون لديها الوقت الكافي لتحقيق بعض الإنجازات، خصوصاً أنّ الضغط الدولي على لبنان يتراجع تدريجيّاً لمصلحة فتح باب المساعدات، ولو كانت مشروطةً، وهذا ما يجعل احتمال فشل الحكومة، بشكل كامل وانتحاري، يتراجع بدوره.
لهذا يعطي الحريري نفسه المزيد من الوقت قبل أن يقول كلمته النهائية، ويقطع الطريق على الفريق العوني لمنعه من السير في سيناريو انقلابي إذا ما سلّم رئيس “تيار المستقبل” ورقة تكليفه ووضعها في جيب الخصوم. وهو بذلك يلعب على حافة الهاوية لأنّه يدرك جيّداً أنّه متى ما يحصل تقاطع إقليمي دولي على حلّ أزمة لبنان، فإنّ اسم رئيس الحكومة يصبح تفصيلاً بسيطاً لن تصعب معالجته، وتصبح مباركة الحريري لتلك التسوية غير ضرورية.
إقرأ أيضاً: الاعتذار: الحريري يربح وباسيل يخسر.. ولبنان يدفع الثمن
وعليه، يقول هؤلاء إنّ رئيس “تيار المستقبل” بات يتعامل مع التطوّرات وفق كل السيناريوهات المتاحة، تاركاً الباب مفتوحاً أمام احتمال تزكيته شخصيّة سنّيّة لرئاسة حكومة تشرف على الانتخابات النيابية. لكنّ هذا الاحتمال يحتاج إلى عدّة شروط وعوامل:
أوّلاً: تمهيد الطريق أمام تركه للسلطة، وهو ما يدأب على القيام به في المرحلة الأخيرة.
ثانياً: الاتفاق مع “خلف” له يُفترض أن يحظى بتوافق داخلي وخارجي.
ثالثاً: ضمان سير العهد بهذا الترشيح لتقوم حكومة يكون دورها الأساسي إجراء الانتخابات النيابية.