لم تكن “حرب البيانات” بين قصر بعبدا وعين التينة سوى عيّنة بسيطة عمّا يُقال في كواليس الرئاستين. انهارت مساعي حزب الله، الحليف غير الحيادي بنظر بعبدا، في إبقاء الحرب الباردة بين ميشال عون ونبيه بري تحت السيطرة.
أمّا تكرار النائب جبران باسيل لازمة “نريد حكومة برئاسة سعد الحريري”، فلم يجد صدى له لدى المعنيّين لكون دفتر شروط نائب البترون للتأليف مرفوضاً بالكامل في عين التينة وبيت الوسط.
زادت المشهدَ تعقيداً دعوةُ الاتحاد العمالي العامّ للإضراب العامّ، بتنسيقٍ كاملٍ مع حركة أمل وتيار المستقبل، الذي دعا “جمهوره إلى الالتزام بالإضراب والاعتصام في وجه كلّ من يستثمر بالانهيار”، فيما رَفَع باسيل السقف رابطاً بين “بوادر ثورة اجتماعية محقّة ومسؤولية مجلس النواب في عدم إقرار ترشيد الدعم والبطاقة التمويلية، وتقصيره في إقرار الكثير من القوانين”.
كانت لافتةً الاتّهامات المبطّنة، التي وجّهها باسيل أمس من مجلس النواب، حين أشار إلى مسؤولية حزب الله، من دون أن يسمّيه، عن التهريب على الحدود، “الذي يتم أيّضاً تحت أعين القوى الأمنيّة، وبمشاركتها أحياناً
وتتحدّث مصادر باسيل عن “تحرّكٍ مطلبيّ بإدارة برّي وتوقيته، ومشاركة المستقبل”، واضعةً إيّاه “في سياق استهداف العهد مع قبّة باط من حزب الله”. مع ذلك، “قوطَب” العونيّون على التحرّك، إذ دعا المكتب العمّالي في قطاع المهن في التيار الوطني الحر إلى الالتزام بالإضراب “للضغط باتجاه تأليف حكومة فوراً”.
في واقع الأمر، لن تكون مجرّد تفصيل المشاركة “الشيعية”، نقابات وقطاعات وتجمّعات عمّالية وشعبية، في التحرّك الذي سيكون اليوم وسيأخذ منحى تصاعديّاً في الأسابيع المقبلة. فحين تكبر الأزمات إلى هذا الحدّ عادة ما يكون الأمر للشارع.
عمليّاً، اليوم يشكّل مشهد الحشد الدولي الداعم للجيش اللبناني من العاصمة الفرنسية إدانةً إضافية للطبقة الحاكمة المُشرِفة على أفظع انهيار مالي وسياسي في تاريخ لبنان الحديث، ويتزامن مع إعلان البنك الدولي أنّ الجيش اللبناني مهدّدٌ بـ”أحد أسوأ الانهيارات المالية التي شهدها العالم خلال الـ150 عاماً الماضية”.
لجأت المؤسسة العسكرية إلى “مركزية” اضطرارية في القرار والأداء في تعاملها مع أزمة لا تهدّد حياة العسكر فقط، بل تنعكس مباشرة على “نوعيّة” الأمن الذي يُشكّل آخر غطاء للسلطة العارية، لكنّه يتعرّض لانتكاسة غير مسبوقة في ظل كوما السلطة وغياب مقوّمات الحدّ الأدنى من الصمود على كلّ المستويات.
وبينما استنفرت باريس عواصم الدول الأوروبية والعربية وواشنطن لتقديم المساعدات العاجلة والضرورية للجيش، كانت سفيرتها في لبنان آن غريو والمستشار الأول في السفارة جان فرنسوا غييوم يتنقّلان بين عين التينة وبيت الوسط، مع استثناء القصر الجمهوري حتى الآن من جدول الزيارات.
يقول مطّلعون: خلال لقاء السفيرة الفرنسية برئيس مجلس النواب، أعربت عن تأييدها للمسعى الذي يقوم به، وحاولت الاستفسار عن العوائق الحقيقية التي تحول دون ولادة الحكومة
مع العلم أنّ آخر زيارة للسفيرة الفرنسية لبعبدا كانت في 5 أيار الماضي، حين سلّمها رئيس الجمهورية ميشال عون رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شرح فيها وجهة نظره من مسار تشكيل الحكومة وتحديده للمسؤولين عن تعطيل ولادتها ورزمة الإصلاحات التي يتبنّاها للخروج من الأزمة. ووفق المعلومات، لم يرِد أيّ جواب رسمي من الإليزيه حتى الآن على رسالة رئيس الجمهورية.
ويقول مطّلعون: “خلال لقاء السفيرة الفرنسية برئيس مجلس النواب، أعربت عن تأييدها للمسعى الذي يقوم به، وحاولت الاستفسار عن العوائق الحقيقية التي تحول دون ولادة الحكومة. ووضعت مَنْ التقتهم في صورة الدعم الذي تولّت باريس الإعداد له لمؤازرة الجيش في هذه المرحلة، إضافة إلى توضيح موقف ماكرون الأخير في شأن الإعداد لآليّة دعم مالية للقطاعات الرئيسة في لبنان”.
لكنّ المسعى الفرنسي في الداخل، ومؤتمر دعم الجيش المقرّر اليوم، غطّت عليهما “القلوب المليانة” التي انفجرت بين بعبدا ومقرّ الرئاسة الثانية، وما بينهما الحرب التي لم تهدأ على خط القصر الجمهوري وبيت الوسط، الذي تفرّد نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي قبل يومين بالنطق باسمه مروّجاً لـ”الإيجابية المطلقة من جانب الحريري التي تُقابَل بالسلبية”.
أمّا على جبهة حزب الله فصمتٌ تامٌّ حيال السجالات الساخنة بين عون وبرّي بعد نحو ثلاثة أسابيع من طلب السيد حسن نصرالله من “صديقه” الرئيس برّي تأدية دور الوسيط لتسهيل تشكيل الحكومة مع تسليمه بأنّ “الرئيس عون باقٍ، والرئيس المكلّف لن يعتذر”.
وقد كانت لافتةً الاتّهامات المبطّنة، التي وجّهها باسيل أمس من مجلس النواب، حين أشار إلى مسؤولية حزب الله، من دون أن يسمّيه، عن التهريب على الحدود، “الذي يتم أيّضاً تحت أعين القوى الأمنيّة، وبمشاركتها أحياناً”. وهو اتّهام يطول مباشرة الجيش الذي يرابض على الحدود لمنع التهريب.
أمّا على جبهة حزب الله فصمتٌ تامٌّ حيال السجالات الساخنة بين عون وبرّي بعد نحو ثلاثة أسابيع من طلب السيد حسن نصرالله من “صديقه” الرئيس برّي تأدية دور الوسيط لتسهيل تشكيل الحكومة مع تسليمه بأنّ الرئيس عون باقٍ، والرئيس المكلّف لن يعتذر
ويتوقّف مطّلعون عند نقاط مهمّة تضمّنتها الرسالة غير المسبوقة لرئيس مجلس النواب في مضمونها وأسلوب مخاطبة رئيس الجمهورية:
– بيان رئاسة مجلس النواب أتى ردّة فعلٍ على “فِعل” مصدره رئاسة الجمهورية، التي اتّهمت الرئيس بري، والمتحدّثين باسمه، بالتدخّل في تشكيل الحكومة ومخالفة قواعد الدستور. ويقول قريبون من برّي إنّ “الوضع الخطير، الذي وصلنا إليه نتيجة تعنّت عون وباسيل، هو الذي دفع باتجاه صدور هذا البيان، ردّاً على بيان بعبدا، مع تأكيد الجملة الأخيرة التي تضمّنها: “المطلوب حلّ وليس ترحالاً، والمبادرة مستمرّة”.
– إشارة بيان رئاسة مجلس النواب إلى “حصول أكثر من اجتماع في القصر الجمهوري وخلافه لإنجاح ما سُمِّي بمبادرة برّي من دون حضوري الشخصي”. وبذلك يؤكّد برّي عقد اجتماعات من أجل تأليف الحكومة، بحضور باسيل والخليلين، في القصر الجمهوري، وهو ما يشكّل سابقة لم يألفها قصر بعبدا سابقاً.
– كلامٌ حاسمٌ لبرّي بعدم وجود حقّ دستوري لرئيس الجمهورية بوزيرٍ واحدٍ “لكونه لا يشارك في التصويت، فكيف تكون له أصوات بطريقة غير مباشرة؟”.
– تأكيد برّي لوجود دعم كامل (الغرب والشرق وكلّ الأطراف اللبنانية) لمبادرته. وهو دعمٌ، وفق قريبين من برّي، أعادت تأكيده السفيرة الفرنسية يوم الثلاثاء من عين التينة.
– تذكير برّي رئيس الجمهورية بخلاصة مناقشة رسالته إلى مجلس النواب المتعلّقة بتكليف الحريري. وما قاله مواربةً يومها، قاله بالحرف الواحد في بيانه أمس: “ليس من حقّكم رفض سعد الحريري. وقرار تكليفه ليس منكم، بل ناشئ عن قرار النواب”. ولعلّ النقطة الدستورية الأهمّ هي إعادة برّي تذكير عون بأنّ “مَنْ يُجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة هو الرئيس المكلّف، ورئيس الجمهورية تعود له صلاحية التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة بالاتّفاق مع رئيسها”.
أمّا ردّ بعبدا على ردّ الرئاسة الثانية فنَزَعَ عن بري “صفة الوسيط الساعي لحلول وجعله طرفاً لا يستطيع أن يعطي لنفسه حق التحرّك باسم الشعب اللبناني”.
كما تضمّن اتهامًا صريحًا لرئيس مجلس النواب بالانخراط في “الحملات التي يتعرّض لها رئيس الجمهورية لتعطيل دوره الدستوري وإقصائه بالقول والفعل عن تحمّل مسؤولياته”.
إقرأ أيضاً: خميس الشارع: “6 شباط” جديد… وتحشيد انتخابيّ
وقال البيان: “لم تكن هناك حاجة لبيان الرئيس بري للإدراك بأنّ ثمّة من لم يغفر بعد لاستعادة الحضور والدور بعد سنين التنكيل والإقصاء منذ العام 1990 حتّى العام 2005”.
وقد عاد بري وذكّر عون بأنّه صاحب القول: “بعدم أحقية الرئيس ميشال سليمان بحقيبة وزارية أو وزارة”، قائلًا له: “فلنذهب إلى الحل”.