حين التقيت رضوان السيّد للمرّة الأولى، في سبعينيّات القرن الماضي، بدا لي منشغلاً بما ينذر به الميل المتعاظم عند الكثيرين، في الحركات السياسية وفي صفوف النخب الثقافية، نحو توكيد الهويّات. كنّا نشهد صعود سياسات الهويّة، التي انطبعت بها حياتنا، وما زالت، في أنحاء الوطن العربي كافة.
يومئذٍ، كان اهتمامه بفهم تلك السياسات ونقدها بمنزلة اعتراض على طغيان سؤال الهويّة على الحياة الفكرية والسياسية، فيما درج الآباء والأجداد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر على التفكّر في أسئلة الحريّة والعدالة والتقدّم والنهوض الثقافي. ولم يشارك دعاة الهويّة النافية للهويّات الأخرى، أو المقلِّلة من شأنها، خوفهم. فكثيراً ما رأى أنّه يترتّب علينا، نحن العرب والمسلمين، ألاّ نخاف العالم وألّا نُخيفه. ولم يؤيّد القول إنّ السير في طريق المستقبل يبدأ باكتشاف ما يميّز الذات الجمعيّة وكأنّها جوهر لا يتغيّر، يُعاد تجسيده مرّة بعد مرّة، مهما تقلّبت الأزمنة.
تميّز بقدرته على الجمع بين معرفة واسعة للثقافة الإسلامية، التي تشبّع بها في الأزهر الشريف، وبين التمرّس في مناهج الفكر الغربي الحديث الذي نهل منه وعرف مداركه، وجد نفسه مطالباً، بل طالب ذاته، بالحرص الدائم على النزاهة الفكرية
حاذر الوقوع في أسر العصبيّات على اختلافها، ولم يغلق على نفسه في هويّة واحدة، بل ظلّ رجل الهويّات المتصالحة. وما غاب عنه تنوّعها وإمكان انسجامها، بل رأى ضرورة هذا الانسجام. فاللبنانية والعروبة والإسلام والكونيّة لم تكن عنده منفصلة ولا متناقضة، مهما قست أوضاع التفكّك والتردّي وراجت الثنائيّات العقيمة. بقي رضوان السيّد راسخاً في انتماءاته المتعدّدة، راضياً بها، وساعياً للتأليف بينها. فأخذ على عاتقه بعض التوتّر الذي يحمله هذا السعي. وجهد في سبيل التوفيق بين عمله الجامعي والفكري وحضوره في الحياة العامّة حتى الانخراط الفاعل فيها، ولم يأنف المجازفة بالاضطرار أحياناً إلى تغليب قضيّة على أخرى، فتعرّض لسوء الفهم عند الأبرياء، ولتجنّي الخبثاء من ورائهم.
ومنذ أن تميّز بقدرته على الجمع بين معرفة واسعة للثقافة الإسلامية، التي تشبّع بها في الأزهر الشريف، وبين التمرّس في مناهج الفكر الغربي الحديث الذي نهل منه وعرف مداركه، وجد نفسه مطالباً، بل طالب ذاته، بالحرص الدائم على النزاهة الفكرية. وشدّد، في غير مجال، على أهميّة الإخصاب المتبادل بين تاريخيّة التجارب الماضية والخصوصيّات الثقافية وبين النزعات الكونيّة في العالم المعاصر. ولم تظهر هذه القدرة في بحوثه الجامعية ومؤلّفاته فحسب، بل أيضاً في تبصّره في شؤون الدين وفي خياراته السياسية.
وتوخّى الاتّساق بين أدواره الثلاثة، الجامعي، المثقّف الباحث والعالِم الديني، والفاعل في الحقل العامّ، شبيهاً بمصالحة هويّاته. فما أخذته بحوثه الجامعية بعيداً من قيم دينه وواقع دنياه. فدعاه الإخلاص للإسلام إلى رفض الغلوّ في إقحام الدين في كلّ مجالات السياسة، وإلى التحفّظ حيال توسّل المشاعر الدينية واستثمارها في الصراعات السياسية. واعتبر ممارسة السياسة أمراً نسبيّاً، لا حقائق نهائيّة فيها. وحَسِب أنّها تصحّح نفسها بنفسها في ضوء الجدل والمنافسة وفق ما يأمر به الخير العامّ، خير الناس وخير الأمّة من دون تمييز بينهما ولا فصام.
إقرأ أيضاً: رضوان السيّد وبناء التراث السياسيّ الإسلاميّ
بطبيعة الحال، لم يخفَ عليه أنّ تحقيق الانسجام بين الأدوار الثلاثة ليس ميسّراً بصورة دائمة في ظلّ تغيّر الأحوال، وأنّه لا يسلك في خطّ مستقيم، بل في طريق ضيّق محفوف بالمخاطر. لكنّ صاحبنا كثيراً ما تصدّى لتلك المخاطر وجال من غير تردّد، وبرشاقة، بين عوالمه الثلاثة، عوالم البحث والفكر والتجديد الديني والفعل السياسي. وفي ذهابه وإيابه، استعان بالتواضع مرّة، وبالجرأة مرّة أخرى، وتحلّى دوماً بالفضول الفكري والحيويّة والاستعداد غير المنقطع للمراجعة والنقد.
لأجل ذلك كلّه، ولأجل المودّة العميقة التي تشدّني إليه، أقول سعادتي واعتزازي بتكريم رضوان السيّد. إنّه خيرُ مَنْ يستحقّه.
* وزير سابق