بوتين – بايدن: هل تمنع “الصدفة النووية”؟

مدة القراءة 5 د

يلقي اجتماع الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين الضوء على معنى اللاثقة في العلاقات بين واشنطن وموسكو، وانعكاسات ذلك على السلام العالمي. سبق أن تجلّى هذا المعنى بأوضح مظاهره وأخطرها في عام 1962، عندما نشبت أزمة “خليج الخنازير” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال صراعهما للهيمنة على كوبا.

في ذلك الوقت، وتحديداً في 17 تشرين الأول من ذلك العام، وصلت الدولتان إلى شفير المجابهة النووية. ليس من خلال التهديد فقط، بل من خلال إطلاق الصواريخ بالفعل. ويكشف عن أسرار تلك الأيام العصيبة والخطيرة التي مرّ بها العالم، وليس واشنطن وموسكو وحدهما، كتاب جديد للمؤرّخ سيرهي بلوخي (Serhii Plokhy)، وعنوانه: “الحماقة النووية” (Nuclear Folly).

لقد خاف الزعيمان السوفياتي والأميركي من وقوع “هرمجيدون” نووية، فكان قرارهما الذي فتح صفحة جديدة في العلاقات بين موسكو وواشنطن

يؤكّد المؤلف أنّ العالم نجا “بضربة حظ” من مأساة نووية. ويروي ما حدث على النحو التالي:

“أعلن الرئيس الأميركي جون كينيدي فرض حصار بحري حول جزيرة كوبا بهدف حمل الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف على سحب الصواريخ النووية المتوسطة المدى، التي زرعها في الجزيرة في صيف ذلك العام.

وقام الأسطول البحري الأميركي، المسلّح بصواريخ مضادة للغواصات، بمطاردة الغواصات السوفياتية، التي كان وجودها في مياه المنطقة خرقاً للحصار.

كانت الخطة الأميركية تقضي بإلقاء قنابل إشعاعات في أعماق المياه، ليس هدفها تدمير الغواصات الروسية، إنّما إنذارها وتخويفها. ولكن الذي حدث هو أنّ الغواصة السوفياتية ب-59 تعرّضت لهذه الإشعاعات على مدى يومين، فأدّى ذلك إلى ارتفاع شديد في الحرارة الداخلية للغواصة، وإلى ارتفاع حادّ في نسبة ثاني أوكسيد الكربون الخانق. فاضطرّت الغواصة إلى الصعود إلى سطح البحر، وأصبحت تحت رحمة الطائرات الحربية الأميركية التي كانت تحلّق في المنطقة.

أدركَ قائد الغواصة السوفياتية فانتين سافيتسكي أنّه أصبح في مرمى القصف الأميركي، واعتقد أنّ الحرب قد نشبت فعلاً، فأعطى الأمر لطاقم الغواصة بالغوص بها من جديد وإطلاق طوربيد نووي باتجاه الأسطول الأميركي. وللطوربيد قوى تدميرية إشعاعية تصيب كل السفن الموجودة في دائرة عرضها عشرة كيلومترات. ومن شأنها أن تطلق سلسلة من الأمواج المرتفعة (على شكل تسونامي) قادرة على إغراق أو تعطيل كل السفن الأميركية ضمن هذه الدائرة”.

استناداً إلى مؤلّف الكتاب، حينئذٍ حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد أدرك قائد المدمّرة الأميركية كوني (Cony)، التي كانت في الموقع، خلفيّة ما حدث، فبادر على الفور إلى إطلاق “قذيفة اعتذار” بسبب الخطأ الذي ارتكبته إحدى الطائرات العسكرية الأميركية وأدّى إلى الضرر الجسيم الذي أصيبت به الغواصة السوفياتية.

من حسن الحظ، أو من محاسن الصدف، أنّ رسالة الاعتذار وصلت الى الغواصة الروسية قبل لحظات قليلة من عودتها الى الأعماق لإطلاق الطوربيد النووي.

وتشاء الصدف أيضاً أن يكون قائد الغواصة السوفياتية فاسيلي أرخيبوف موجوداً في موقع سلاح الإشارة، فبادر على الفور إلى وقف الأمر بإطلاق الطوربيد قبل لحظات قليلة.

أدّت سلسلة المصادفات تلك الى إنقاذ العالم من الجحيم النووي.. حتى قبل أن يصل الأمر الى الرئيس السوفياتي خروتشوف في الكرملين أو إلى الرئيس الأميركي كينيدي في البيت الأبيض.

قضية الصواريخ السوفياتية في كوبا أشبه ما تكون بقضية الصواريخ الأميركية في أوكرانيا. الخطر واحد والصدفة لا تتكرّر


إنّ خطأً ارتكبه طيّار أميركي كاد يشعل حرباً نووية، ولكن حكمة قائديْ غواصة روسية ومدمّرة أميركية صحّحت الخطأ وأنقذت العالم من الجحيم”.

ما كان بالإمكان كشف النقاب عن هذه الحقيقة التاريخية لو لم تُرفع السريّة عن الوثائق السوفياتية (بعد سقوط الاتحاد السوفياتي)، وعن الوثائق الأميركية (لمرور الوقت). إلا أنّ تراجع العلاقات بين واشنطن وموسكو يعيد هذه العلاقات إلى الوراء مرّة أخرى، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقين نوويّين مع روسيا، يفترض أن يكون الالتزام بهما أساساً لمنع اتخاذ أيّ قرار نووي مبني على معلومات خاطئة.

استناداً الى الكتاب الجديد الذي يوثّق حادثة “خليج الخنازير”، لو أطلقت الغوّاصة الروسية الطوربيد، لكان الرئيس الأميركي كينيدي مضطراً إلى إعطاء الأمر بتوجيه ضربة نووية للأهداف السوفياتية، مؤدّياً بذلك إلى دفع القوتين النوويتين العالميتين إلى نقطة اللاتراجع.

مع ذلك، واستناداً إلى ما ورد في الكتاب أيضاً، وبعد الحادث الذي أصاب الغواصة السوفياتية، أطلقت إحدى سفن الأسطول السوفياتي صاروخاً أسقط طائرة تجسّس أميركية يو-2.

وقد استنفرت القوات السوفياتية في كوبا اعتقاداً منها بأنّ هذه الاصطدامات هي المرحلة الأولى في عملية غزو أميركي للجزيرة.. وهكذا وصلت موسكو وواشنطن إلى حافة الهاوية النووية على الرغم من إرادة القيادة السياسية في كلٍّ منهما.

وتعبيراً عن هذه الإرادة، أعلن الرئيس خروتشوف أنّه وافق على سحب صواريخه من كوبا.. وأعلن كندي أنّه وافق على عدم غزو كوبا.

لقد خاف الزعيمان السوفياتي والأميركي من وقوع “هرمجيدون” نووية، فكان قرارهما الذي فتح صفحة جديدة في العلاقات بين موسكو وواشنطن. وهو المطلوب اليوم من لقاء الرئيسين بايدن وبوتين. صحيح أنّ ملف “خليج الخنازير” أصبح من الماضي، إلا أنّ إضاءاته ضرورية لرؤية المستقبل. فالأزمة في أوكرانيا اليوم أشبه ما تكون بالأزمة في كوبا بالأمس.

إقرأ أيضاً: بين بوتين وبايدن: من هو القاتل؟

كانت كوبا ورماً في الخاصرة الأميركية، أمّا أوكرانيا فهي ورم في الخاصرة الروسية. والتحالف العسكري بين كوبا وموسكو أشبه ما يكون اليوم بالتحالف العسكري بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي.

وقضية الصواريخ السوفياتية في كوبا أشبه ما تكون بقضية الصواريخ الأميركية في أوكرانيا. الخطر واحد.. والصدفة لا تتكرّر. فهل يسود منطق الحكمة؟!

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…