إنّه الرشيد

لا يليق برشيد كرامي استذكار ذكرى الرحيل، فنحن أمّة لا تهوى النحيب ولا العويل. بل أمثاله يستحقّون منّا الاحتفال بذكرى مولدهم، وكيف الحال إن كانت هذه السنة هي ذكرى 100 عام على ولادة هذا الرجل الكبير في 1921.

رشيد كرامي وطرابلس قصّة واحدة، وليسا قصّتين. كلّ ما في طرابلس تجده في تاريخ رشيد كرامي، وكلّ ملامح هذا الإنسان تجدها بملامح الفيحاء وشوارعها وأسواقها ومساجدها وأزقّتها، الغنيّ منها والفقير.

هو ابن مفتي المدينة وزعيمها عبد الحميد كرامي، الذي سُمّي تيمّناً بالسلطان عبد الحميد الذي زيَّن ساحة التلّ بالساعة الكبيرة. منذ ذلك الحين، يسير توقيت المدينة وفقاً لساعة عبد الحميد كما زعيم المدينة هو من يخرج أيضاً من عباءة عبد الحميد.

لا تمتلك طرابلس صلاحية العاصمة، وإن كانوا يطلقون عليها العاصمة الثانية بالترتيب. أيضاً رشيد كرامي لم يكن يوماً رئيس حكومة بصلاحيات واضحة واسعة، كما حدّدها الطائف لاحقاً، إلّا أنّه هو رئيسٌ بكلّ ما تحمل من معنى كلمة رئيس، كما مدينته هي عاصمة للشمال، أو كما وضع أبناؤها عند مدخلها، قلعة المسلمين.

هو ابن مفتي المدينة وزعيمها عبد الحميد كرامي، الذي سُمّي تيمّناً بالسلطان عبد الحميد الذي زيَّن ساحة التلّ بالساعة الكبيرة

طرابلس تآمر عليها الكثيرون، ورشيد كرامي بدوره تآمر الكثيرون عليه. حبّ طرابلس لأبنائها لم يتغيّر يوماً، وحبّ الرشيد لطرابلس لم يطرأ عليه أيّ تغيير. دم طرابلس دائماً على الرصيف عند كلّ استحقاق وعند كلّ تغيير، من دون أن تُحدّد هويّة القاتل أو هويّة المعتدي اللئيم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دم الرشيد الذي ما زال في تلك الطوّافة التي كانت تطير. لم يُرفع حتى هذه اللحظة، ويبقى القاتل مجهولاً غريبا.

هو سليل عائلة طبعت اسمها باسم السياسة منذ عبد الحميد كما طبعت طرابلس أيضاً اسمها على أنّها مدينة العلم والعلماء وكلّ شيء ثمين.

رشيد كرامي هو الطرابلسيّ الجميل بلهجته وبهدوئه وعناده، الذي تسبّب بتجلّط الدماء للكثيرين.

رشيد كرامي صلب كقلعة المدينة، ولذيذ كالحلوى التي تُباع في سوقها العتيق بالزاهرية وباب الرمل والتبّانة والبحصاص والقبّة والمينا، موطن كل الحنين.

هو سليل عائلة طبعت اسمها باسم السياسة منذ عبد الحميد كما طبعت طرابلس أيضاً اسمها على أنّها مدينة العلم والعلماء وكلّ شيء ثمين

أحببتَه أم لم تحبّه، فلقد صنع رشيد كرامي لمقام رئاسة الحكومة كلّ تقدير. كان الرئيس القويّ من دون صلاحيّات، فالصلاحيّات يسعى إليها الرئيس الضعيف.

 كان رئيساً يجمّد عهوداً إن أغضبته، ويُفقد فعّاليّة أيّ رئيس.

رشيد كرامي علامة فارقة في تاريخ لبنان. الرجل اغتيل، وكان استشهاده بمنزلة السرّ الكبير.

كم تفتقد مدينته لحضوره! وكم نفتقد نحن كلّنا لصلابته وشخصيّته وكرامته في السراي الحكومي الكبير!

إقرأ أيضاً: سُنّة لبنان المخيّرون بين احتلالين

* رشيد عبد الحميد كرامي (30 كانون الأول 1921 – 1 تمّوز 1987) هو سياسي لبناني ينتمي إلى مدينة طرابلس. شغل منصب رئيس الوزراء ثماني مرّات (وهو رقم قياسي)، كانت أولاها بين أيلول 1955 وآذار 1956، وآخِرتها من نيسان 1984 إلى استشهاده في  تموز 1987.

اغتيل على إثر تفجير طائرة عمودية عسكرية كان يستقلّها. أُدين سمير جعجع قائد القوات اللبنانية بتدبير الاغتيال، وحُكِم عليه بالإعدام، ثمّ بالسجن المؤبّد، قبل أن يُطلق سراحه سنة 2005.

 ينتمي رشيد كرامي إلى عائلة سياسية عريقة، إذ شغل والده، وأخوه عمر من بعده، منصب رئيس الوزراء.

مواضيع ذات صلة

5 أسابيع حاسمة في تاريخ الشّرق الأوسط

تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل. يفصل الشرق الأوسط عن ذلك أقلّ من 5 أسابيع تبدو ناظمة لحسابات إدارة الرئيس جو بايدن،…

رهانات إيران وعقدة الجغرافيا وخطأ التّلكّؤ

زايدت المعارضة الإسرائيلية من يسارها إلى يمينها على صقور التطرّف في حكومة بنيامين نتنياهو بالدعوة إلى الانتقام الشرس وإلحاق أقصى قصاص بإيران بعد إطلاقها رشقات…

إيران.. الاعتدال مخرج لإفشال نتنياهو

لا ينقص الدولة الإقليمية الكبرى “إيران” معرفة قدراتها الفعلية وقدرات خصومها، ووفق ذلك تضع أولويّاتها وحدود حركتها.   تعرف إيران قدرات أذرعها وحلفائها، حيث المواجهة…

العقائديّة التي تعمي الرؤى الاستراتيجيّة

“وكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً      تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ        هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا وَلا يُنبيكَ عَن خُلُقِ اللَيالي        كَمَن فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَالصَحابا أَخا الدُنيا أَرى دُنياكَ أَفعى      …