بعد محاورة عدد من المشاركين في الحلقة الأولى، وحلقة ثانية نشرت أمس الأوّل، وحلقة ثالثة أمس، ينشر “أساس” الجزء الرابع والأخير من ملفّ عن ورقة بحثيّة أعدّها “مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية”، على أن تليها حلقة أخيرة بعد غد، مع قراءة تحليلية من الزميل عبادة اللدن.
تتنبّأ الورقة البحثية بمزيد من التأزّم في المرحلة المقبلة في لبنان خلال النصف المتبقّي من العام الجاري، وما بعده.
وقد بُنيت على نقاشات شارك فيها الأساتذة: طارق متري، أنطوان حداد، ناصر ياسين، زياد عبد الصمد، حسين إسماعيل، مصطفى سعيد، خليل جبارة، ليندا مطر، وندى عباس.
لا بدّ للبطالة والفقر والتدهور في التعليم وسوء الرعاية الصحّية أن تخلّف التوتّرات، وتزيد من منسوب العنف والجريمة، وهذا كلّه سيقود بدوره المجتمع اللبناني إلى المزيد من التقوقع والانقسام. هذا ما ستعالجه الورقة البحثية في المعضلتين الأخيرتين بالتفصيل.
4- زيادة التوتّرات الاجتماعيّة والعنف ومعدّلات الجريمة
تقول الروايات، التي تتناول فترة الكساد الكبير في عام 1929 في الولايات المتحدة، إنّ الناس كان يرمون أنفسهم من الشبابيك انتحاراً نتيجة تنامي معدّليْ الفقر والبطالة، فيما نشط عمل المافيات والجريمة المنظّمة والسرقات. هذه السيناريوهات تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً.
من الواضح أنّ الأوضاع الأمنيّة في لبنان تشتدّ سوءاً مع تفاقم الأزمة. فوفقاً للإحصائيات الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة السرقات بنحو 57% بين عاميْ 2019 و2020، وبنسبة 162% في الربع الأول من عام 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. أمّا جرائم القتل فقد ارتفعت بنسبة 91% بين عاميْ 2019 و2020، ونحو 2.4% في الربع الأول من عام 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من عام 2020. في حين تراجعت حالات الانتحار بنسبة 13.4% بين عاميْ 2019 و2020، وبنحو 22% في الربع الأول من عام 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من عام 2020.
لا بدّ للبطالة والفقر والتدهور في التعليم وسوء الرعاية الصحّية أن تخلّف التوتّرات، وتزيد من منسوب العنف والجريمة، وهذا كلّه سيقود بدوره المجتمع اللبناني إلى المزيد من التقوقع والانقسام. هذا ما ستعالجه الورقة البحثية في المعضلتين الأخيرتين بالتفصيل
إلى ذلك، سُجِّل ارتفاع في حالات العنف ضدّ النساء والفتيات. إذ أشار مسح أجرته مجموعة العمل المُشترك بين الوكالات المعنيّة بالعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، التابعة للأمم المتّحدة، إلى أنّ 54% من النساء والفتيات اللواتي شاركن في المسح لاحظن زيادة في العنف ضدّ نساء وفتيات ا?خريات ضمن ا?سرهنّ ا?و مجتمعاتهنّ المحلّية، فيما شهد الربع الأول من عام 2020، أي قبل إعلان التعبئة العامّة للحدّ من تفشّي جائحة كوفيد-19، ارتفاعاً مُقلقاً في حالات العنف الأسري، التي وصلت إلى 69%، وفق نظام الرصد الدولي للعنف القائم على النوع الاجتماعي. وتتوقّع جميع الجمعيّات التي تُعنى بالعنف الأسري أن تتضاعف حالات العنف وجرائم القتل ضدّ النساء والفتيات في عام 2021 بسبب الضغط المتواصل والانهيار غير المسبوق الذي يعيشه المجتمع اللبناني.
5- تنامي النزعة الانفصاليّة وتعميق سياسات الهويّة
خلال الأزمات العميقة، تبرز غالباً النزعات القومية والانعزالية، وأخطرها تلك التي تعبّر عنها التنظيمات السياسية اليمينية والشعبوية، لا الأفراد، نظراً إلى قدرتها على حرف الخطاب العام والنقاش عن أسباب المشكلة نحو النتائج التي أوصلت إليها، بما يؤدّي إلى تكرار الوقوع في المشكلة نفسها.
نتيجة الإفلاس وانهيار بعض محرّكات عمل النظام السياسي القائم على تحويل الدولة إلى أداة لإعادة التوزيع والزبائنية، يشهد لبنان تنامياً ملحوظاً في النزعات الانعزالية، التي يُعبَّر عنها حيناً بالفيدرالية، وحيناً آخر باللامركزية، باعتبارها من الأشكال التنظيمية المُمكنة لإدارة شؤون هذا المجتمع. وهي نزعات تشتدّ مع اشتداد الأزمة باعتبارها البديل عن النظام السياسي القائم.
إقرأ أيضاً: مرصد AUB: الانهيار الكامل.. قاب “أسبوعين” أو أدنى (1/4)
طبعاً، تأتي هذه الطروحات خارج تعاريفها المُجرّدة، بل من منطلق طائفي ومناطقي يعمّق سياسات الهويّة، التي لطالما أدّت دوراً رئيساً في تحديد المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد، حيث لا وجود لمجتمع سياسي مستقلّ عن الطائفة، ما يحرف العمل السياسي عن مساره الصحّي، أي التركيز على أسباب الأزمات والمشكلات بما تنطوي عليه من مصالح طبقية مُتضاربة وتفاوتات تعمّق اللامساواة وتجذِّر آليّات الاستغلال وانعدام الحقوق، ويعيق عملية بناء نظام سياسي فعّال ينتج نظاماً اقتصادياً قابلاً للحياة وحماية المجتمع.
تصوّر هذه الطروحات الحلّ بجعل عملية القرار الخاصّة بكلّ طائفة (الفيدرالية) أو منطقة (اللامركزية) مستقلّة عن الأخرى، بما يسمح بتأمين حقوق أفراد الطائفة أو المنطقة، بمعزل عن غيرها من الطوائف أو المناطق، منطلقة من تصوّر ضمنيّ بأنّ الطوائف أو المناطق الأخرى تنعّمت بحقوق لم تحصل هي عليها، إلّا أن الواقع يدحض هذه التصوّرات.
تُطرح الفيدرالية حلّاً يفصل الطوائف بعضها عن البعض الآخر اجتماعياً ضمن مناطق مُستقلّة تكون لكلّ منها حرّية اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات التي تلائمها، إلّا أن تشريح الاختلافات بين الطوائف أو زعمائها يبيّن مسألتين، وهما:
1) الاختلاف بالتبعية والارتباط الخارجيين.
2) الاختلاف على حصرية حمل السلاح، وتحديد جهة استعماله.
بمعنى آخر، الاختلاف هو على السياستين الخارجية والدفاعية، لا السياسات الاجتماعية والاقتصادية، التي يُبيّن مسار 30 عاماً من حكم ائتلاف زعماء الطوائف اتفاقهم عليها وتنصّلهم من مسؤولياتهم في تشريعها، والأمثلة كثيرة، سواء لناحية نسف مشروع الطبابة المجّانية أو تصحيح الأجور بالإجماع، وتمنّعهم عن إقرار مشاريع للنقل العام المشترك، والسكن اللائق، وتعزيز التعليم الرسمي، وتوفير الكهرباء، وفرض نظام ضريبي عادل وهادف، وبناء اقتصاد مُنتج لا يراعي مصالح التجّار والمالكين وأصحاب المصارف… في حين أنّ الفيدرالية، عدا عن أنّها تعطي لكلّ قسم من أقسامها حرّية التشريع الاقتصادي والاجتماعي، إلّا أنّها تترك تحديد السياسات الخارجية والدفاعية والنقدية محصوراً لدى السلطة المركزية، وهو ما يجعلها حلّاً لا يتماشى مع طبيعة الأزمة، التي نجمت عن عدم وجود دولة تتمتّع بمركزية قرار لتحديد سياسات دفاعية وخارجية موحّدة، وعدم وجود نظام اقتصادي يخدم المجتمع ويؤمّن حاجاته، بل يقوم على تأمين الموارد لزعامات طائفية سيطرت على الدولة بعد الحرب لكي تتمكّن من المحافظة على سلطتها عبر الزبائنية، وتأمين أرباح قلّة استفادت من مراكمة الخسائر التي تتحمّلها الغالبية اليوم.
خلال الأزمات العميقة، تبرز غالباً النزعات القومية والانعزالية، وأخطرها تلك التي تعبّر عنها التنظيمات السياسية اليمينية والشعبوية، لا الأفراد، نظراً إلى قدرتها على حرف الخطاب العام والنقاش عن أسباب المشكلة نحو النتائج التي أوصلت إليها
أمّا اللامركزية فتُطرح حلّاً لتحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق لكونها تعطي السلطات المحلّية صلاحيّات أكبر في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والإنمائية والتطويرية، بعدما أهملت دولة ما بعد الحرب هذا الواجب، وعجزت السلطة المركزية الناتجة عنها عن توفير الخدمات العامّة والأساسية للمقيمين، وإعادة تأهيل المرافق العامّة وتطويرها. لكنّ ما يغفله مؤيّدو هذا الطرح هو تجسّد اللامركزية في لبنان بالبلديات، التي صدر قانون تنظيمها منذ عام 1977، وأعطاها صلاحيّات واسعة في المجالات الإنمائية والاقتصادية، إلّا أنّ الفشل في تطبيقه وتلبية احتياجات المناطق ومعالجة المشكلات المتعلّقة بالحياة العامّة جاء بدايةً نتيجة الحرب التي استمرّت حتى عام 1990، ولاحقاً بسبب عدم بناء قدراتها المؤسّساتية لأداء مهمّاتها، إمّا بسبب تصغير عددها وعدم تكتيلها في اتحادات تمتلك موارد مالية كافية للقيام بالمشاريع، أو بسبب كيفية تحديد الحصص وتوزيعها عبر الصندوق البلدي المستقلّ. في الواقع، يقوم التوازن بالإنماء، بالمبدأ، على إعادة توزيع المداخيل الضريبية والثروة الوطنية بين مختلف المناطق لمساعدة المناطق الأقلّ تطوّراً، والتي لا تملك موارد مالية كافية للقيام بالمشاريع الإنمائية، والحدّ من التفاوتات في ما بينها، وهو ما يتطلّب أساساً وجود دولة مركزية قويّة لديها رؤية وخطّة لإنماء المناطق، تفرض نظاماً ضريبياً يستند إلى الضرائب المباشرة على الريوع والثروة والدخل لتتمكّن من إعادة توزيعها بما يخدم أهدافها الإنمائية. وقد تكون اللامركزية إحدى هذه الوسائل لا الغاية بذاتها، وإلّا انحدرت إلى مشروع دويلات قليلة الفعالية.
إقرأ أيضاً: مرصد AUB: خمس معضلات تؤسس لانهيار التعليم والطبابة هذه السنة (3/4)
الخاتمة
فيما تعدُّ القضايا الخمس المذكورة من أبرز المشكلات التي قد يواجه المجتمع اللبناني تدهورها وتفاقم أوضاعها سوءاً، إلّا أنّها تبقى عيّنة لمشاكل أخرى قد تترافق معها وتعظّم تأثيراتها بعد رفع الدعم، خاصة إذا حصل بطريقة غير منظّمة، وتراجع الخدمات العامّة والأساسية وتوقّفها، بالتوازي مع فرملة أيّ حلّ سياسي واضح في المدى المنظور.
من هنا، يأتي رصد تطوّر الأزمة وفتح النقاشات حولها مدخلاً لتقديم صورة علمية عن عمقها ومآلاتها ومساراتها، وللحثّ على تذليل العقبات السياسية أولاً، وللخروج منها، ثانياً، نحو اقتصاد أكثر استدامة يحمي المجتمع ويحصّنه.